شادي حبشي والمعادلة المستحيلة
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
منذ عدة أشهر أوقعني حظي السعيد في قناة “تاريخ وكورافيا – شادي حبشي” على اليوتيوب والتي يقدم محتواها شادي حبشي، لأقف أمام ما يقدمه وأنا أردد مثل حسن شحاتة “أنا صح أنا صح” بالتأكيد لا تربطني أية معرفة بشادي حبشي “للأسف” ولكن شادي وما يقدمه من محتوى هو ببساطة تجسيد حي لكل الأفكار التي كنت أتحدث عنها حول مستقبل صناعة المحتوى، وكيف يمكن تقديم محتوى طويل على اليوتيوب.
الحقيقة أنه خلال العامين الماضيين خضت أكثر من نقاش حول فكرة أن مستقبل المحتوى على الإنترنت للمحتوى الطويل وليس السريع أو القصير، لأن اليوتيوب لم يعد تلك المنصة التي تشارك عليها فيديوهات قصيرة، بل إن المحتوى الطويل أصبح هو عامل الجذب الرئيسي حاليًا ويمكنك مراجعة أرقام المشاهدات والمتابعة وغيرها من إحصائيات، ويمكنك أيضًا مراجعة أسماء صناع المحتوى الذين لمعوا في الفترة الأخيرة ومدد محتواهم وستجد أن الأرقام تدعم وجهة نظري.
ولكن المختلف في شادي حبشي أنه غامر بتطبيق بعض الطرق والأساليب التي كان يرفضها أو يعتبرها صناع المحتوى غير مجدية ومملة ولكنه طبقها بطريقته، ويمكن تحليل قوة شادي حبشي كصانع محتوى في بعض النقاط.
الدراما
أحد أشهر صانعي المحتوى على اليوتيوب وهو الدحيح دائما ما يكرر في حلقاته فكرة السياق الدرامي، وهو على حق فأي محتوى طويل لابد من وجود سياق درامي، به من التصاعد والتشويق ما يكفي ليجعل المشاهد يشاهد المحتوى لنهايته، ولكن لأسباب مختلفة لم ينجح الدحيح في خلق سياق درامي حقيقي وقوي إلا في مرات قليلة، رغم محاولاته المستمرة، فدائما ينتصر كتاب الدحيح للمعلومة أكثر من السياق يبحثون عن التكثيف أكثر من السرد.
بينما يعتمد محتوى شادي حبشي على السياق الدرامي كعمود فقري يمكن من خلاله تقديم المعلومة، فمثلا في حلقة وائل جمعة، البداية كانت أبعد بكثير من وائل جمعة، تلك البداية البعيدة هي السبب الأول في نجاح الحلقة لأنها كانت القاعدة التي بنى عليها شادي قصته، كانت الأفان تتر مثلما يقال بلغة الدراما.
يزخرف شادي سياقه الدراما بالعديد من النقاط الإنسانية المضيئة، بل هو حريص أن تكون تلك النقاط مضيئة ومتواجدة في حلقاته جميعها، والحقيقة أن هذا جزء أصيل من تفرده، وبتعمد شديد ينجذب شادي للقصص التي يجد فيها تلك النقاط، ويعمل على استثمارها لينفذ بذلك قاعدة درامية مهمة، وهي ربط الجمهور بالبطل وخلق رابطة تعاطف معه.
الراوي
شادي حبشي ليس مقدم محتوى على اليوتيوب، لكنه ببساطة راوي، حكاء، مع خلق التعاطف والدراما في القصة يتحول تلقائيًا شادي حبشي من مقدم محتوى إلى راوي، معتمدًا على فكرة الراوي العليم بالأشياء، يقرر شادي أن يقص قصته علينا، قصة أهم ما فيها أن راويها يؤمن ويصدق كل ما يقوله فيها، وبالتالي نصدقه ونرتبط بما يقول ونسعى لسماع المزيد والمزيد.
ما يفعله شادي في قناته هو كل ما ستسمع أنه منبوذ ومرفوض من كل صناع المحتوى أصحاب العقول الحجرية، شادي يروي بطبقات صوتية متقاربة دونما انفعال زائد أو أداء مفتعل، يروي كأنه أمر اعتيادي، ولكن هذه الاعتيادية فيها سر هام، وهي الحميمية، يدرك شادي جيدًا من هم جمهوره، لذلك فهو يحكي كمن يجلس معهم على المقهى بدون تكلف أو مبالغات، يروي مع أصدقائه، وهذه من أهم السمات لديه، قدرته على خلق علاقة حميمية مع متلقي لا يعرفه ولا يراه، فكأنما يتخيل مجموعة من أصدقائه ويروي لهم حكايته.
في إحدى المرات قابلت صاحب شركة إنتاج محتوى وتطرق بيننا الحديث حول فكرة تصوير برنامج بكاميرا واحدة، ليتعامل معي كوني كائن فضائي ينطق بهرطقة ما أنزل الله بها من سلطان وان كل ما أقوله هو محض من الغباء وعدم الخبرة وأن فكرة تلك كفيلة أن تحمل المحتوى بأكمله “خاصة وأنه محتوى يعتمد على الحكي” إلى القاع ولكن الحقيقة، تجاهل ذاك الشخص، أولا العديد من التجارب الناجحة بنفس الشكل، ثانيًا أن هناك فارق بين الرتابة والحميمية، في كثير من الأحيان يكون استخدام كاميرا واحدة فقط وبكادر ثابت هو أساس الرابط بين المتلقي وصانع المحتوى، حيث يعمل هذا على كسر حاجز الشاشة بين طرفي المعادلة، وشادي حبشي ومحتواه هو الدليل الحي على صحة تلك النظرية.
الاختلاف والبساطة
من هو جمهورك؟ إجابة هذا السؤال هي الطريق الذي ستسير فيه، هي المرجعية لكل الأفكار التي قد تفكر في تقديمها وطريقة تقديمها أيضًا، شادي يعلم جيدًا من هو جمهوره، يعلم أنه الجمهور المحب لكرة القدم، هو يستهدف تلك الفئة، الفئة التي ترى ما وراء الكرة والملاعب، التي تؤمن أن الكرة أكبر بكثير من ملعب وإستاد، التي ترتبط بناديها وبلاعبيه وبتاريخهم، تلك الفئة التي تستمع بجمهور بورسيا دورتموند وتحب قصص الأندر دوج، ولحظات اختلاط الدموع بالعرق، وأن ال90 دقيقة ما هي إلا غلاف فضي جميع يخفى داخله قطعة من أجمل أنواع الشوكولاتة، شادي يختار جمهوره بقصد أو بدون قصد ولكنه يختاره بعناية.
تجد هذا التحديد واضحًا في الجملة التي يبدأ فيها كافة حلقاته ” هنتكلم عن الكورة بحكايات وقصص جوة الملعب وبرة الملعب، وهنشوف الكورة بطريقة مختلفة تمامًا” تلك الجملة ليست مجرد افتتاحية بل هي وعد من شادي حبشي للمتفرج بشيء متفرد ومختلف، والحقيقة أو وعود صناع المحتوى كثيرة ومستمرة وقليل منهم من يفي بها في محتواه، ومن بين هؤلاء شادي حبشي، الذي يفي بما يعدك به، فهو يخرج بك خارج الملعب ليفسر لك ما يحدث بداخله، الدوافع وراء تألق وائل جمعة، رحلة صعود موسيماني، أسرار عبقرية كولر، لماذا نجح ديف مكاي مع الزمالك، سر عظمة جمهور دورتموند وغيرها من الأمور التي ترى نتائجها داخل الملعب ولكنه، يريك كيف صنعت تلك النتائج، شادي اختار أن يتجاوز حتى غرف الملابس ويخرج إلى عالم كرة القدم بمعناه الأوسع، العالم الساحر الذي يجعلها الرياضة الشعبية الأولى في العالم، بل يحولها من رياضة للغة عالمية مثلها مثل الموسيقى والسينما وغيرها من الفنون العابرة للغات والثقافات.
شادي حبشي، ليس مجرد صانع محتوى، بل هو رهان رابح محطم لكل ما سمي زورًا بثوابت إنتاج المحتوى الرقمي، ليؤسس نمط وشكل ولون جديد من المحتوى، لن ينجح فيه أي أحد ولكن، من كانت لديه ملكات الروي والحكي والقبول – تلك الملكات التي يتمتع بها شادي حبشي- سينجح بالتأكيد، شادي وضع حجر الأساس والطريق، وآخرون سيسيرون على نفس الدرب ويطورون فيه، الأهم أن الثوابت وجدت فأسً قويًا ليحيلها ركام.
ليثبت المبدأ الأهم أن المحتوى الرقمي هو عالم اللا ثوابت
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال