شريط : كوكب تاني .. مدحت صالح عندما ينتصر التاريخ للأفضل
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في النصف الأول من الثمانينات كان يسيطر على سوق الغناء جيل الوسط بقيادة “على الحجار،محمد منير،عمر فتحي، محمد الحلو،مدحت صالح” هذا الخماسي الذي قاد ثورة غنائية عرفت فيما بعد بالأغنية البديلة التي حلت محل الأغنية الكلاسيكية الطويلة وشكلت نقلة مهمة جدًا في تاريخ الأغنية المصرية.
يعتبر مدحت صالح الأصغر سنًا بين هذا الخماسي والأكثر نبوغًا من ناحية الصوت القوي الدافئ الذي يمتلك جينات الطرب الخالص غير المفتعل، مع إطلالة لطيفة صنعت له شخصية فنية مختلفة، شهدت بداياته بعض محاولات دمج بين المدرسة الكلاسيكية في الأداء والتناول الموسيقي الحديث نسبيًا، صنعت أغنية “السهرة تحلى” شهرته الأولى وبدأ بعدها محاولات الارتقاء على سلم النجومية رويدًا رويدًا حتى عام 1988 الذي صدر فيه شريطه الأيقوني “السهرة تحلى” والذي شكل ذروة مجده الفني.
رغم مرور أكثر من 30 عامًا على صدور شريط “كوكب تاني” إلا أنه مازال محتفظًا بجماهيرية كبيرة بين جمهور مدحت صالح وجمهور الأغنية البديلة في العموم،لذا نعيد فتح ملفات هذا الشريط الذي خلد نفسه في تاريخ الغناء المصري الحديث.
تفاصيل الشريط
بدأت رحلة صناعة الشريط قبل عام من إصداره حيث تم اختيار أغنية “كوكب تاني” للمشاركة في مهرجان دولي للموسيقى يقام في تركيا، حصدت من خلاله المركز الثالث ومن ثم بدأ مدحت صالح العمل على شريطه الجديد على أن تكون تلك كوكب تاني الأغنية الرئيسية فيه.
ضم الشريط ثمان أغنيات كتب من ثلاثة أغنيات الشاعر وائل هلال مع نخبة أخرى من شعراء جيل الوسط “عوض بدوي، سيد عبد الظاهر،مدحت الجمال، عماد حسن” مع المخضرم “صلاح فايز” وفي الألحان اعتمد مدحت صالح على الملحن فاروق الشرنوبي في أربع أغنيات مع “سامي الحفناوي،حسن أبو السعود، على رضا،وظهور الملحن الشاب وقتها محمد ضياء لأول مرة على المستوى الأحترافي، أما على صعيد التوزيع الموسيقي فاختار مدحت أن يكمل المسيرة التي بدأها في أغنية كوكب تاني مع الموزع عماد الشاروني الذي وزع الشريط بالكامل ماعدا أغنية واحدة وزعها “ميشيل المصري”.
شريط اتكلمي : محمد منير .. هل انتصر الفرد على الجماعة؟
“كوكب تاني”
تحمل تلك الأغنية طابعًا ثوريًا من ناحية الفكرة التي يعلن فيها التمرد والرفض للوجود في هذا العالم الموحش الذي اختفت فيه القيم الإنسانية وأجبرت الإنسان على تغيير مبادئه وقناعاته، صياغة الصحفي “مدحت الجمال” اقتربت من المباشرة بكلمات ومفردات جريئة جدًا غير معتادة في تلك الفترة التي كانت تختفي فيها تلك المضامين خلف الرمزية خوفًا من الاصطدام بالرقابة.
لحن سامي الحفناوي جاء كي يتمم تلك الحالة، اللحن متعدد الأوجه ببناء متماسك جدًا وجمل تعبيرية محضة، مقام الأغنية الرئيسي هو النهاوند حيث يظهر في المذهب والكوبليه الأول، في الكوبليه الثاني ينقلنا إلى مقام الصبا في جزء” بين يومي وأمسي” هي نقلة شديدة القوة وتعبر بأسي شديد عن ضعف الإنسان تجاه هذا الكوكب الموحش، ثم ينتقل إلى مقام العجم بداية من مقطع “مكبوتة في قلبي” ويعود سريعًا إلي النهاوند في آخره حيث يختتم به الكوبليه الأخير.
بنى الموزع عماد الشاروني التوزيع بشكل أوركسترالي مدروس و توصيف كامل للحالة، تبدأ الموسيقى من النحاسيات ذات الجرس القوي وكأنها تعلن عن صرخة تمرد وترد عليها الوتريات بنفس الجملة ثم تتوارى النحاسيات في الخلفية مع الالات النفخ الخشبية وتسلم الغناء بكل سلاسة،التوزيع متماسك ودسم جدًا امتاز بقفلاته القوية التي تتصاعد مع الحالة، جملة الفاصل كانت قصيرة جدًا تنطلق بعدها الكوبليهات حيث يتغير الهارموني بحسب جملة اللحن مدعوم كل ذلك بإيقاع قوي جدًا.
“بحبك”
يبدأ الشاعر “صلاح فايز” الأغنية مستخدمًا المفردة الكلاسيكية الأشهر في الأغاني العاطفية “بحبك”، الكلمات رومانسية بمفردات بسيطة تعكس وجود الحب داخل التفاصيل الحياتية وأن شابها بعض السطحية في شطر “بحبك وأنا بختار الوان”، في الكوبليه قبل الأخير اختار تكرار مفردة أخرى “أنتي” والتي كسرت ملل تكرار كلمة “بحبك” التي عاد إليها في الكوبليه الأخير.
لحن الأغنية على مقام الكرد المفضل للملحن “حسن أبو السعود”، جمل اللحن إيقاعية حملت في طياتها مزيج من البهجة والفرح، تحرك حسن أبو السعود داخل جمل اللحن بخفة شديدة مبتكرًا عدة أفكار مبنية بشكل جيد و متماهية مع الكلمات ويظهر بوضوح في شطر “هقولها بصوت عالي” بجملة صاعدة قوية ثم يهبط بخفة في جملة “وهقولها بهمس”، في الكوبليه قبل الأخير اختار جملة لحنية جديدة تناسبت مع تغيير الأجواء في الكلمات ثم عاد إلى الجملة الرئيسية في الكوبليه الأخيرة.
توزيع عماد الشاروني تعامل ببساطة مع اللحن الإيقاعي مدعوم بجمل هارمونية قوية سواء من الوتريات أو النحاسيات ثم غير في الإيقاع في الكوبليه قبل الأخير مع وجود كورال نسائي أعطى خفة ورومانسية تناسبت مع طبيعة الأغنية.
“محبتك جنون”
كلمات سيد عبد الظاهر تحيلنا إلى رومانسية زمن الفوارس النبيلة التي لا تتنازل عن الحبيبة بل أشك أنه كان يكتب الأغنية وفي مخيلته شخصية مثل “روميو” والمفردات التي تحيلنا إلى قصص العشاق الكلاسيكية “وقضيتي في هواكي أكون أو لا أكون”.
لحن على رضا متعدد الأوجه بدأ من مقام الكرد في المذهب ثم انتقل إلى النهاوند في الكوبليه مع عُربة أثر في مقطع “قلبي مسافر في حبك”، جمل اللحن حالمة جدًا تعكس طبيعة الكلمات وتعكس فكرة ميلاد الكلمات قبل اللحن حيث نجد توافق وتطابق بينهما.
التوزيع غلف الحالة الرومانسية بشكل رائع بداية من الجيتار الأكوستيك الذي تزحف خلفه الوتريات بنعومة شديدة ثم صولو كمان مستنسخ من اللحن، لعبت الوتريات دورًا قويًا في ملء هارمونيات الأغنية مع خط باص جيتار قوي جدًا.
الأغنية واحدة من كلاسيكيات مدحت صالح يستعيدها العشاق بانتظام ولازالت تحصد مستمعين جدد حتى الأن.
“ألف جناح”
أول أغنية درامية في الشريط، كلمات وائل هلال قوية جدًا تعكس شجن وحزن عن قسوة الإنكسار أمام الظروف دون لطميات أو بكائيات مبالغ فيها مع صورة وأخيلة جديدة تعكس إمكانيات هذا الجيل من الشعراء الذي أثرى الأغنية بالعديد من المفردات والمعالجات الجديدة على عالمها.
لحن فاروق الشرنوبي حاول توصيف الحالة بلحن معقد بعض الشئ حيث بدأ الغناء من درجة العجم ثم ارتكز في النهاية على مقام الحجاز، في الكوبليهات انتقل إلى مقام البياتي.
وضع الشاروني بصمته حيث اختار أن تبدأ المقدمة من النهاوند “الدرجة الرابعة لمقام الحجاز” المقام الرئيسي للمذهب، ثم سلم الغناء بكل سلاسة، مع بناء هارموني دسم وتغييرات في الإيقاع صعودًا وهبوطًا مع جمل اللحن يصاحبه خط باص جيتار قوي جدًا.
رغم تقليدية فكرة الأغنية عن الحبيب الضائع والحياة المستحيلة من بعده، إلا أن معالجة الشاعر عماد حسن جاءت جديدة من حيث الصور والمفردات تعكس أفكار هذا الجيل في خلط الشعر العامي مع شعر الأغنية، الكلمات تقطر أسى وحزن وعبر عنها بالعديد من الصور القوية جدًا “حزينة الأرض من بعدك من يومها المطر في سكوت” “يا واخدة نهري وياكي انا عطشان يبدأ نيلي من قلبك ومن قلبك لقلبي يفوت”.
لحن متعدد الأوجه من محمد ضياء يبدأ من النهاوند في المذهب والكوبليه الأول مع بعض العرب اللحنية ثم ينتقل إلي الكرد في الكوبليه الأخير ويرتكز على النهاوند في نهايته كي يعود إلي الجملة الأصلية للحن.
توزيع ثري جدًا من عماد الشاروني يبدأ بجمل قلقة متوترة من الكمنجات التي ترد عليها التشيللوهات،في المذهب ترد الوتريات والنحاسيات بالتبادل على الغناء، يحسب للشاروني التنويع في جمل الفاصل حيث جاءت الأولى من الوتريات على المقام الرئيسي للأغنية، ثم انتقل إلي الكرد في الفاصل الثاني في جملة العود الشجية جدًا والتي جاءت كي تسلم الغناء على نفس المقام في الكوبليه الأخير.
“بحلم على قدي”
واحدة من كلاسيكيات مدحت صالح المهمة جدًا، كلمات وائل هلال تدمج بين المضامين العاطفية والإنسانية في إطار حالم وبكلمات مباشرة وبسيطة بدأها من حلم فردي في المذهب ثم انطلق إلى الحلم الجماعي في الكوبليهات.
لحن ثري وشجي جدًا من فاروق الشرنوبي تنقل فيه بين مقام الكرد في مذهب الأغنية والنهاوند في الكوبليهات مع عُربة بسيطة على مقام الحجاز كانت كوبري يعود منه إلي مقام الكرد مرة أخرى.
طوع الشاروني أفكاره كي تناسب فكرة الكلمات واللحن مع الحفاظ على شخصيته كموزع، تبدأ المقدمة من البيانو مع الوتريات حتى يتسلم الفلوت الدفة بجملة شديدة الحالمية سلمت الغناء بكل سلاسة، يصاحب الغناء وتريات دسمة جدًا ترد عليها الفلوت، ثم يدخل الجيتار الحالم هو الأخر في جملة الفاصل يعزف نفس جملة لحن المذهب.
تنعي كلمات وائل هلال الأحلام التي غالبًا لا تتحقق، بتكثيف شديد وتناول مباشر بعدد قليل من الكلمات لكن بدسامة في الصور والأخيلة، لحن فاروق الشرنوبي واحد من أحلى الألحان في الثمانينات كلها، لحن دسم جدًا بنقلات قوية عبرت عن الفكرة بشكل واضح.
يبدأ الغناء من مقام النوا أثر ثم ينتقل إلى الكرد في مقطع “حبيت ده ماضي انتهى” ثم يعود إلى النوا أثر في قفلة المذهب، في الكوبليهات ينتقل إلى مقام الصبا الحزين الذي يعكس بوضوح الاسي الواضح في الكلمات ثم يقفل الغناء على البياتي في جمل “الحب جواكي” و”قبلت أهواكي”.
توزيع أوركسترالي من الموزع ميشيل المصري بمقدمة طويلة نسبية على المقام الرئيسي للأغنية تبدأ من اّلة الأوبوا ثم تدخل الوتريات بجمل متواترة مع إيقاع الواحدة الكبيرة من الرق وخط الكونترباص قوي جدًا تصاحبها همهات مدحت صالح، جملة الفاصل هي نفس جملة المقدمة، في الكوبليهات صنع جزء هارموني مغاير لجمل اللحن على مقام الكرد كي يعود منها إلى المقام الرئيسي للأغنية.
“شمس مشقشقة”
يستعرض الشاعر عوض بدوي عضلاته في كلمات الأغنية، الكلمات تحيلك إلى أجواء من البهجة والتفاؤل بتقطيعات قصيرة وغزارة في المفردات مع قافية صعب تنم عن امتلاكه قاموس ضخم دون أن يخل بفكرة الأغنية أو يضطر إلى حشر مفردة خارج السياق، وهي بصمة تميزه حيث كرر نفس الأمر في أغنية “شمس ودفا” بعدها بسنوات.
تعامل فاروق الشرنوبي مع الكلمات بخفة منقطعة النظير بجمل لحنية قصيرة على مقام النهاوند في البداية ثم انتقل إلى جنس الكرد في الكوبليهات بكل سلاسة، توزيع الشاروني تماهي مع الحالة يبدأ من الإلكتريك جيتار الذي ترد عليه الوتريات بخفة وسلاسة، مع إعطاء حرية لعازف الإلكتريك جيتار في وضع حليات في كل صولو، كل هذا مدعوم بكومبو قوي جدًا من الإيقاع والباص جيتار مع وتريات أعطت دسامة للأغنية.
التاريخ ينحاز للأفضل.
طرح شريط كوكب تاني إلى الأسواق في نفس يوم نزول شريط لولاكي الذي اكتسح المبيعات وحقق ما لم يحققه شريط كاسيت من قبل، المدهش في الأمر أن أغنية لولاكي و كوكب تاني من ألحان ملحن واحد “سامي الحفناوي” مع الفارق الكبير في الإخراج الموسيقي الذي صنع من لولاكي أيقونة تجارية اختفت سريعًا ومثلت لعنة على مطربها، وفي النهاية انحاز التاريخ إلي القيمة الفنية العالية التي مثلها كوكب تاني الذي لازال محتفظًا برونقه وكأنه أصدر حديثًا يستعيده جمهور ومحبي مدحت صالح طول الوقت وأصبحت بعض أغنياته فقرة ثابتة في لقاءاته وحفلاته فكان مثل زجاجة العطر كلما مر عليها الوقت كلما زادها تعتيقًا وثباتًا أكثر في ذاكرة الجمهور
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال