التعامل مع المسائل الحساسة دون ذكاء، كحمل شعلة في مستودع بارود، وقد نجح مسلسل لام شمسية في معالجة إحدى القضايا الأكثر حساسية بحكمة وذكاء بفضل 6 عناصر، وكل صناع العمل يستحقوا التحية عليها.

عناصر ذكاء مسلسل لام شمسية

كان لابد أن يكون المسلسل ذكيًا وعناصر الذكاء التي سنذكرها تؤكد على وجود نص ممتاز ومخرج شاطر وممثلين موهوبين.

(استنارة لا إثارة بفن خالي من الوعظ والتنظير)

من هنا، أصبح التساؤل مشروعًا: ما الجديد الذي يقدمه مسلسل لام شمسية؟ هل يسعى فقط إلى إثارة الجدل بكشف مساوئ المجتمع، أم أنه يتناولها بهدف تحقيق التوعية والاستنارة؟

ونجح “لام شمسية” في تبني الخيار الثاني، إذ قدّم للأهالي ـ سواءً ممن واجه أطفالهم هذه التجربة المؤلمة أو ممن لم يواجهوها ـ رسائل توعوية مثل ضرورة اللجوء إلى الطب النفسي وأهمية الحفاظ على بيئة أسرية مستقرة بعيدًا عن عرض مشكلات الأبوين أمام الأبناء.

غير أن الذكاء الحقيقي للمسلسل لم يكمن في مجرد تقديم الوعي، بل في الطريقة التي اختار بها ذلك، فلم يقع في فخ الوعظ المباشر أو التنظير، بل حافظ على كونه عملًا فنيًا متكاملًا قائمًا على حبكة درامية مشوقة، مما جعل رسائله تصل إلى المشاهد بسلاسة، دون أن تُفرض عليه بأسلوب مباشر أو تلقيني.

(أنْسَنَة القضية لا مصرنتها)

ثاني مظاهر الذكاء التي برزت في المسلسل أنه لم يحصر القضية في إطار محلي أو يجعلها تبدو وكأنها مشكلة مصرية بحتة، رغم أن أحداثه تدور في مصر باعتباره عملًا فنيًا مصريًا خالصًا، لكنه تجنب “تمصير” قضية التحرش، إدراكًا منه أنها ليست مشكلة بلد بعينه، بل قضية إنسانية ومجتمعية تمتد عبر الحدود والثقافات.

هذا الطرح العالمي جعل المسلسل قادرًا على الوصول إلى جمهور واسع في مختلف الدول، حيث حظي بنسب مشاهدة مرتفعة على القنوات التي عرضته، وكذلك عبر المنصات الرقمية مثل “وتش إت” و”شاهد” وغيرها، ما عزز من تأثيره ورسائله التوعوية على نطاق أوسع، مثل رسائل (دور الأخصائي الاجتماعي في المدارس، أهمية ابتعاد الخلافات الأبوية عن الأبناء، اللجوء للطبيب في حال وجود مشكلات بالعلاقة الحميمة إلخ).

(قضية حساسة بدون مشاهد جارحة)

ثالث مظاهر الذكاء التي برزت في المسلسل أنه التزم بحدود فنية وأخلاقية صارمة، فلم يتضمن مشهدًا واحدًا يمكن وصفه بـ”جارحة”، سواء على مستوى التمثيل الحركي أو الحوار، ورغم مطالبته بعد التتر بشأن ضرورة مراعاة الفئات العمرية للمشاهدين، نظرًا لحساسية القصة، فإنه لم يلجأ إلى أي مشاهد صادمة أو جارحة للضرورة الدرامية.

هذا التوازن بين تقديم رسالة قوية عن قضية التحرش، وبين الالتزام بضوابط فنية تحترم المشاهد، عزز من مصداقية المسلسل وجعله أكثر قبولًا لدى الجمهور، حيث استطاع إيصال فكرته بعمق ودون اللجوء إلى أساليب الإثارة.

(عمل لكل الطبقات لا طبقةً بعينها)

أما فيما يتعلق بعنصر المكان، فيمكن اعتباره رابع مظاهر الذكاء في المسلسل، فقد اختار صُنّاع “لام شمسية” الابتعاد عن النمط السائد في الدراما الحديثة التي تدور أحداثها داخل “الكومبوندات”، حيث أصبحت هذه البيئة الحصرية شبه دائمة في العديد من الأعمال الأخيرة. بل على العكس، سخر المسلسل من هذا الاتجاه بطريقة ذكية وغير مباشرة، كما تجلّى ذلك في مشهد “نهال” وهي تبرر كذبها بشأن نشأتها في دبي، متحججة بأنها تريد الارتباط بـ”الناس بتوع إيجيبت”.

هذا الاختيار لم يكن عشوائيًا، بل كان مقصودًا لتفادي الاستقطاب الطبقي، حيث إن قضية التحرش لا تقتصر على بيئة معينة أو طبقة اجتماعية محددة، بل هي مشكلة مجتمعية شاملة تمس الجميع ـ سواء في الأحياء الشعبية أو المناطق الفاخرة، في المدن أو القرى، بل وحتى خارج حدود مصر، لتشمل المجتمعات العربية أيضًا.

(قضية جميع المدارس في مدرسة خاصة)

قد يبدو للوهلة الأولى أن المسلسل يقتصر في معالجته على بيئة المدارس الخاصة أو الدولية (الإنترناشونال)، دون التطرق إلى واقع المدارس الحكومية، وهو ما قد يُنظر إليه كنقطة ضعف، ولكن عند التعمق أكثر، نجد أن هذه الرؤية غير دقيقة، لأن واقع الحال يشير إلى عزوف الكثير من الأسر عن المدارس الحكومية، حتى في الصعيد، حيث أصبحت المدارس الخاصة خيارًا متاحًا هناك أيضًا.

ومع ذلك، لم يُقْصِي المسلسل المدارس الحكومية تمامًا، بل استطاع بذكاء أن يجمع مختلف فئات التعليم في مشهد الدروس الخصوصية، حيث أصبحت هذه الظاهرة قاسمًا مشتركًا بين كل الطلاب ـ سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة، فالجميع سواسية أمام مطرقة الدروس الخصوصية وسندان الثقة في المعلم، وهو ما جعل هذا العنصر الخامس من عناصر ذكاء المسلسل، حيث لم ينحصر في بيئة تعليمية بعينها، بل عالج القضية بمنظور أشمل يمس جميع الطلاب وأولياء الأمور، بغض النظر عن نوع المدرسة التي ينتمون إليها، وكان ذكاءً من المسلسل أن يستعرض أهمية دور الأخصائي الاجتماعي في المدارس.

(الكليشيهات العدو الأول والوحيد)

كسر النمطية كان العنصر السادس من عناصر ذكاء مسلسل لام شمسية، حيث نجح في تقديم صورة مختلفة عن شخصية المتحرش، مبتعدًا عن القوالب النمطية التي اعتادت الأعمال الدرامية تكرارها.

فعلى سبيل المثال، لم يُقدَّم مسلسل لام شخصية شخصية “وسام المتحرش” كشخص ضعيف الشخصية أو مريب الشكل (منسون يعني)، بل على العكس تمامًا، كان رجلاً أنيقًا، واثقًا من نفسه، يوحي مظهره بالاحترام، ويدّعي المثالية، لأنه قادر على كسب ثقة من حوله بسهولة، ولا يخفى أن هذا التناول يذكرنا بحوادث مشابهة في الواقع، مثل قضية محمد جودت متحرش المعادي.

إقرأ أيضا

رحلة سميرة سعيد من التجديد إلى التقليد

كذلك، كسر المسلسل النمط المعتاد في الأعمال الدرامية التي تتناول شخصية “المتدين السافل / المجرم”، إذ لم يبالغ مسلسل لام شمسية في إبراز تدين “وسام”، ليس خوفًا من ردود فعل المشاهدين، وإنما لأن هذا التناول أصبح مستهلكًا ومفتعلًا، كما رأينا سابقًا في شخصية أحمد رزق في “سيد ناس”، حيث أصبح اللجوء لهذا النموذج أقرب إلى الكليشيه الدرامي.

وهنا يكمن ذكاء المسلسل، إذ كان من الممكن أن يُظهر المتحرش كشخص متدين دون أن يكون ذلك محل انتقاد، خاصة أن الواقع مليء بحوادث تحرش ارتكبها أشخاص ذوو مظاهر تدين، كما حدث من محفّظ القرآن في البدرشين.

ومع ذلك، اختار المسلسل تجنب هذا الطرح، ليس إنكارًا لوجود هذه الحالات، ولكن حتى لا ينحرف النقاش نحو جدل سفسطائي حول التدين والمظهر، ويبتعد عن القضية الجوهرية.

كذلك، كان تقديم شخصية الطبيب النفسي أحد مظاهر كسر النمطية في المسلسل، حيث تجنّب الصورة الكلاسيكية المعتادة للطبيب النفسي في الدراما، والتي غالبًا ما تُقدّمه كشخص “مروَّش”، مستغرق في عالمه الخاص، يجلس في مكتبه بين المجلدات الضخمة، مرتديًا نظارة سميكة أشبه بقعر كوب، تحيط به سحابة من دخان البايب، وتزين جدرانه صور لفيليهلم فونت أو سيجموند فرويد”.

على العكس تمامًا، اختار المسلسل أن يُظهر الطبيب النفسي كإنسان عادي مثل الجميع، لكنه يتميز عنهم بتخصصه وليس بانعزاله عن الواقع. هذه المعالجة الذكية ساعدت في كسر الصورة النمطية عن أطباء الصحة النفسية، وساهمت في إزالة الحواجز النفسية التي تجعل البعض ينظر إليهم وكأنهم “كائنات غريبة”، مما يعزز من تقبل فكرة اللجوء إليهم عند الحاجة، دون الشعور بالرهبة.

في النهاية فقد حقق مسلسل لام شمسية نجاحًا على قدر قتامة القضية التي يتناولها، لأن التحرش، ولا سيما التحرش بالأطفال، من القضايا الأكثر إلحاحًا وحساسية، فلم تعد هذه الوقائع مجرد أخبار متناثرة في صفحات الحوادث بالصحف الورقية أو أقسام الحوادث في المواقع الإلكترونية، ولا حتى مجرد شكوى في منشور أو تغريدة، بل أصبحت تُعرض بالصوت والصورة، مما يجعل تجاهلها أمرًا مستحيلًا.