صحيح البخاري في ميزان النقد والرد

يشكك كثير من الناس في السنة النبوية الشريفة على اعتبار أن السنة النبوية ما هي إلا ما ذكره البخاري في صحيحة، وعلى اعتبار أنه أول من جمع الأحاديث وصنفها، ويستنكر المشككون صنيع البخاري في جمع الأحاديث، فكيف له أن يجمع 600 ألف حديث في 16 سنة؟، وكيف تَنقل بين البلدان والمدن ليجمع كل هذا العدد المهول من الأحاديث مع الأخذ في الاعتبار أن وسائل التنقل كانت بدائية جدًا( الناقة ، الحصان، وغيرها من الدواب التي تحمل الأمتعة)، كيف له أن يجمع حديث من مكة وآخر من المدينة وهذا من الشام وذلك من بغداد، هذا يحتاج إلى جهد كبير وسنوات أطول مما ذكره البخاري، فالمنطق والعقل يرفض هذه الروايات ويرفض هذه الأحاديث. يمكننا الإجابة على هذه التساؤلات من خلال التوضيحات الآتية:

بدايةً هل البخاري ذكر أنه صنف 600 ألف حديث في 16 سنة؟!

في كتاب” فتح الباري” لـ “ابن حجر العسقلاني” قال ( وعن البخاري قال صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة). على افتراض أنه قال هذا الخبر كما ذكر “ابن حجر”، هل قال “البخاري” أنه جمع هذا العدد الكبير من بلدان مختلفة، الإجابة قطعًا لا، لكن الغاية من خبر “ابن حجر” أن “البخاري” انتخب واختار وفق معايير وشروط الصحة الذي وضعها هذا العدد من الأحاديث.

سؤال آخر يحتاج إلى إجابة حاسمة كيف قال النبي كل هذا العدد من الأحاديث الذي جمعها صحيح البخاري ؟

للإجابة على هذا التساؤل لابد أن نتوقف قليلًا على فكرة قول الحديث، فالحديث لا يقتصر فقط على قول النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الحديث هو ما نُسب إلى النبي( ص)  من قول، أو فعل، أو صفة، أو تقرير ولتوضيح أكثر :

القول: هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه.

الفعل: أي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رأته وروته عن النبي محمد.

الصفة: ما نُسب إلى النبي من صفات خُلقية أو خَلقية؛ الخُلقية تعني أخلاق النبي، أمّا الخَلقية تعني صفاته الشكلية.

تقرير: هو الفعل الذي يقع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ويراه ولم يعترض أي أقر النبي بهذا الفعل.

وهنا عرفنا أنّ الـ600 ألف حديث لم يكونوا كلام النبي المنطوق، بل كل ما ذكرناه سابقًا، وهذا يعني أن العدد المذكور ليس بالكثير عند هذه النقطة.

وإضافة إلى ما سبق فإن علماء الحديث يعتبرون أن السند حديث، وللتوضيح .. مثلا قال النبي صلى الله عليه وسلم” إنما الأعمال بالنيات” فسمعه صحابي ورواه لخمسة من التابعين، هنا علماء الحديث  يعتبرونه خمسة أحاديث وإن كان المتن واحدًا ألا وهو ” إنما الأعمال بالنيات” ولنفرض أن كل تابعي روى هذا المتن إلى 10 من تابعي التابعين في هذه الحالة لدينا 50 حديث، وأكرر المتن واحد. ويعود السبب في هذا أن جزء من صنعة علماء الحديث متعلقة بالسند والرواية فمن خلالهما يقولون هذا الحديث صحيح أو ضعيف.

والدليل من  صحيح البخاري نفسه حيث يوجد فيه 7300 حديث تقريبًا بالمكررات، فنرى على سبيل المثال أن “البخاري” وضع حديث واحد في أكثر من باب في صحيحه، فمثلا من الممكن أن تجد حديث يقع في باب الصوم، ومكرر في باب الصلاة، وهذا يعود إلى فائدة الحديث الخاصة بالصلاة وفائدته في باب الصوم وما إلى ذلك .

ذكر ” البخاري”  حديث”  إنما الأعمال بالنيات” في صححه 7 مرات بسبع أرقام مختلفة عن 7 من الراوية وهم ( الحُميديّ،وابن مسلمة،محمد بن كثير، مسدد، ويحيى بن قزعة، وقتيبة بن سعيد، وأبو النعمان) .

والسؤال هنا لماذا كرر “البخاري” الحديث الواحد في مواضع مختلفة، الإجابة لفائدة إسنادية، بمعنى أن تعرف أن البخاري اعتمد على هذا الرجل الراوية في نقل الحديث. هنا يمكننا أن القول أن الـ 600 ألف حديث معناه من قول وفعل وصفة وتقرير وإسناد وطريقة لنقل الحديث، ولم ننتهي بعد!.

وبجانب  ما ذكرناه سابقًا فإن كلمة حديث تطلق على آثار الصحابة والتابعين، فمن الممكن أن يقول الصحابي كلام فنعتبره حديث والدليل : قال “النووي”، نقلا عن “العراقي”(  في هذا الكلام نظر لقول البخاري أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح قال: ولعل البخاري أراد بالأحاديث المكررة والأسانيد والموقوفات فربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين).

وفي مقدمة “ابن الصلاح” قال “البخاري” : ( أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين، وربنا عد الحديث المروي بإسنادين حديثين.

خلاصة القول أن انتخاب 600 ألف حديث من قول أو فعل النبي أو تقرير ، إضافة إلى تعدد الأسانيد للحديث الواحد وآثار الصحابة والتابعين.

سؤال جوهري آخر هل درس البخاري 600 ألف حديث في 16 سنة؟!

هذا هو السؤال الأهم، هل البخاري درس وجمع هذا العدد، الحقيقة أن هذا التصور تصور ناقص لماذا؟، نعود إلى حياة البخاري قليلًا. فالبخاري ولد عام 194 هجرية، ثم  بدأ دراسته كما هو مخطوط في” سير أعلام النبلاء”  (قال : ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب فقلت كم كان سنك؟ فقال عشر سنين أو أقل .

وجاء  في “سير أعلام النبلاء”  أيضًا:(فلما طعنت في ثمان عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت كتاب( التاريخ) إذ ذاك عند قبر رسول الله ).

وهنا لا بد أن نشير إلى كتاب (التاريخ الكبير)، هذا الكتاب بالغ الأهمية في علم الرجال، والمقصود بالرجال هنا هم رواة الأحاديث، فهو علم مختص بمعرفة أحوال رواة هذه الأحاديث من حيث هل هم كذبة أم موثوق في حفظة، وأُشير إلى أن تأليف الكتاب وعمر البخاري 18 سنة.

وكتاب (التاريخ الكبير)  كتبه “البخاري” قبل صحيحه، ويعتبر هذا الكتاب أصعب من صحيح البخاري بمراحل، ذلك أن الإمام “البخاري” ترجم للصحابة والتابعين وتابعي التابعين والآخذين عنهم ورتبهم ترتبتًا وفق الترتيب الأبجدي كما ذكر شيوخ وتلاميذ كل واحد منهم، ثم تحدث فيهم جرحًا وتعديلًا بمعني أن هذا ثقة أو غير ثقة، إلى جانب كل الأحاديث التي رواها كل واحد منهم ، بالتالي كتاب(التاريخ الكبير)  سهّل عمل البخاري في صحيحه.

إقرأ أيضا

ديوان ” دايما في الليل” .. حينما يبحث الإنسان عن ذاته

بدأ البخاري كتابة صحيحه عام 216 هجرية، وأذكر هنا  أن البخاري درس 12 سنة قبل كتابة هذا الكتاب، إضافة إلى 16 سنة زمن الكتابة يعني المجموع السنوات 28 سنة، وهذه السنوات طويلة لكتابة هذا الكتاب .

كما يتغافل البعض عن شيوخ البخاري الذي أخذ عنهم علم الحديث ودونه في كتابه المعروف بـ صحيح البخاري، وهذا يؤكد أن البخاري لم يخترع هذه الحديث من وهم عقله، أو سافر يجمع كل حديث من مكان كما يُقال. وأعرفكم ببعض شيوخ البخاري ومنهم ( الحميدي، وابن رهويه، و الإمام أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين.. وغيرهم)، فمن خلال اتصاله بهؤلاء الشيوخ يستطيع أن يجمع الكثير والكثير من الأحاديث.

انظر مثلا إلى مسند الإمام أحمد نجد فيه 40 ألف حديث، وهو من شيوخ البخاري الذي أخذ عنه العلم، بالتالي أخذ عنه الـ 40 ألف حديث. ثم انظر إلى ” يحيى بن معين” الذي كتب بخط يده 600 ألف حديث، وهذا ما جاء في كتاب تاريخ بغداد عنه إذ قال ( سألت يحيى بن معين : ككم كتبت من الحديث يا أبا زكريا؟ قال كتبت بيدي هذه ست مائة ألف حديث).

و أعلم سؤالك عزيزي القارئ كيف جمع أحمد أو يحيى أو غيرهم كل تلك الأحاديث الذي أخذها البخاري؟، بالطبع لم يخترعوها فهي موجودة بمخطوطات من زمن النبي، وهناك ما نُقل عن طريق الحفظ والرواية، ويمكنك معرفتها تفصيلًا من خلال مقال نُشر على الميزان بعنوان:( تاريخ الخلاف في تدوين الحديث النبوي الشريف)

وعن سفر الإمام فكان من شدة حرصه على نقل الصحيح كان يسافر ليستمع إلى هذه الأحاديث من شيوخه في بلدان عدة ويكتب الأحاديث بنفسه من شيوخه في مجالس التحديث أو مجالس الإملاء أو مجالس السماع، وهي أن يقرأ الشيخ ويُحدّث عن رسول الله، فيحدث في الساعة الواحدة ١٠٠ حديث تقريبًا،ـ ملاحظة العدد ليس كثير، يمكنك زيارة دروس الأزهر في وقتنا الحالي وتستطيع سماع أكثر من مائة حديث في ساعة أو أقل ـ .

وفي النهاية لا بد أن نعرف أن عدد كتب الأحاديث قبل صحيح البخاري وصلت إلى أكثر من 25 مصنف، كما لا بد أن نعرف أن البخاري له كتاب في علم الحديث غير صحيحه وهو كتاب( الأدب المفرد) وهو كتاب يه الأحاديث الضعيفة، لكنه لم يلقى نفس الشهرة التي لاقاها الصحيح. إن علم الحديث علم وفن وصنعه، وحينما راجع  أهل العلم والصناعة والفن صحيح البخاري و تحققوا منه ومن الشروط التي راعها” البخاري” استحق صحيحه هذه المنزلة الكبيرة لا لشخص البخاري بل لعلمه وعمله في الكتاب.

نختم بقول “ابن تيمية ” في كتابه ” منهاج السنة النبوية” (ولا يعلمون أن قولنا : رواه البخاري ومسلم علامة لنا على ثبوت صحته، لا أنه كان صحيحًا بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما من العلماء والمحدثين من لا يُحصى عدده إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه، وبعد زمانه بزمن، ولو لم يُخلق البخاري ومسلم لم ينقص من الدين شيء كانت تلك الأحاديث موجودة بأسانيد يحصل بها المقصود وفق المقصود).