طارق بشير : قمت بتسجيل الأدوار والموشحات على اسطوانات شمع
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
يرجع الفضل لتعرفي وصداقتي بالفنان الفريد طارق بشير للأستاذ الموسيقي الكبير محمد علي بحري، حيث كان أول تعارف بيننا حين نشر الأستاذ بحري مقطعا غنائيا لي فكان من عظيم شرفي أن أثنى عليه الفنان طارق بشير، ومن هنا بدأت صداقتنا.
التقيت ببشير في القاهرة للمرة الأولى لأكتشف كنزا كامنا داخل هذا الرجل، فنان نهضوي في ثوب رجل معاصر، متقنا للغناء الشرقي الكلاسيكي ( والغناء بالإنجليزية أيضا) وعزف آلة العود بطريقة مذهلة، يحمل قدرا هائلا من المعلومات الموسيقية، شخصية هادئة ومثقفة لا يعرف الغرور لطباعها طريق.
قررت أن أجري مع الفنان طارق بشير هذا الحوار الذي أثراني فيه بالكثير من المعلومات حول رحلته الفنية وتجربته الفريدة في التسجيل على اسطوانات الشمع.
في البداية، من هو الفنان طارق بشير، وكيف دخلت إلى عالم الغناء والموسيقى؟
طارق حسام الدين بشير، مواليد 1973م، ولدت لأب وأم سودانيين من أصول مصرية،والدي نوبي الأصل، أما نسب والدتي فيرجع لسي عبده الحامولي.
وعن اهتمامه بالموسيقى ودخوله لعالم السمع والغناء قال بشير: وعيت على أسرة تحب الموسيقى وتستمع إليها طوال الوقت، فوالدتي أحد سميعة السيدة أم كلثوم، أما والدي فسميع (من نوع خاص) يحب سماع عبد الوهاب القديم ويميل لمواويله وأدواره وموشحاته القديمة كليلة الوداع ومين عذبك وملا الكاسات وعندما يأتي المساء، فسمعت منذ نعومة أظافري ما كان يسمعه والدي وأعجبت به وصادف مزاجي، من هنا بدأ حبي للموسيقى الكلاسيكية.
– لماذا فن عصر النهضة بالتحديد؟ وما سر حبك لهذا الفن ؟
في البداية أحب أن أنوه على نقطة مهمة، وهي أن الفن النهضوي ليس الفن المحبب لكل الناس، فأنا أحد الذين نفروا من هذا الفن في البداية قبل ظهور التسجيلات التي نسمعها اليوم (التسجيلات الأصلية)، لما كانت تحمله طريقة تقديمها في الستينات من فتور وجمود من خلال فرقة الموسيقى العربية، ولكن بعد استماعي للتسجيلات التي ظهرت بعد ذلك بدأت أكتشف سحر هذا الفن وجماله ومن هنا بدأ اهتمامي بهذا الفن.
ولماذا فن عصر النهضة بالتحديد؟
في الحقيقة أنا أرى أن عظماء الموسيقى في القرن العشرين كسيد درويش وزكريا أحمد وعبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وأم كلثوم وغيرهم، كل هؤلاء الذين نحبهم ونجلهم قد نهلوا وتعلموا من مدرسة فن عصر النهضة، فلم يأتوا بما أتوا به إلا لما تعلموه وأثقلهم من مدرسة هذا الفن، إلا أنهم لم يراكموا كما راكم من قبلهم من عظماء عصر النهضة، ودخلت مصر في الستينيات والسبعينيات مرحلة جديدة من التطوير مبتعدة عن هذا الفن، فلم يعد هناك من يقول الدور أو الموشح، حتى على مستوى التعليم ابتعدنا عن تعلم الموشحات والادوار، ابتعدنا كذلك عن تعلم المقامات بعمق، ولذلك كان هذا الفن جديراً بالاهتمام.
– وماذا عن تجربة التسجيل على اسطوانات الشمع، كيف جاءت الفكرة؟
قال بشير: الفكرة في البداية جاءت بالصدفة حين شاهدت فيديو على اليوتيوب لشخص يقوم بالتسجيل على اسطوانات الشمع مستخدما أجهزة الفونوغراف القديمة، أعجبتني الفكرة خصوصا أنني أرفض فكرة تسجيل الأدوار والموشحات بالطريقة الحديثة داخل الاستوديوهات.
تواصت معه عبر الهاتف في محادثتين طويلتين، لأكتشف أنه متخصص في هذا الشأن ويمتلك العديد من أجهزة الفونوغراف في منزله، ولحسن الحظ كان مقيما في انجلترا (محل إقامتي) في مدينة ( شفيلد )، عرضت عليه الفكرة فرحب بها وتولى هو تنظيم العمل عليها بما في ذلك تنظيم أماكن الآلات وتحديد موقعها من بوق الفونوغراف أثناء التسجيل.
هل واجهتكم صعوبات خلال هذه التجربة؟
بكل تأكيد، فبعد حواري مع المتخصص في هذا الشأن اكتشفت عيوبا في هذه التقنية زادت من صعوبة الأمر، فالتسجيل بهذه التقنية يكون لمرة واحدة فقط ولا يقبل إعادة التسجيل مرة أخرى على الاسطوانة وهو ما يتطلب أن يكون الغناء سليما في كل مرة، فلا مجال للخطأ، بمعنى أنه إذا أردنا انتاج اسطوانتين أو ثلاثة لنفس القطعة لابد أن يكون الغناء سليما في كل مرة أو على الاقل يكون المطرب راضيا عن كل مرة يسجل فيها، كذلك مشكلة الوقت كانت أحد الصعوبات التي واجهتنا، فمدة الاسطوانة دقيقتين وعشرين ثانية على الأكثر، وهو ما يتحكم في سرعة الموسيقى والغناء وبدوره يؤثر كذلك في اختيار الدور أو الموشح الذي سنقوم بتسجيله، وبالتالي حوصرنا في اختيارات محدودة كدور جددي يا نفس حظك أو بشرف مربع البياتي أو تحميلة الصبا، واكتشفنا في النهاية أن ذات الأزمة قد واجهت رواد الطرب في العقد الأخير من القرن التاسع عشروهو ما بدا من اختياراتهم في التسجيلات التي وصلتنا.
وعن خصائص التسجيل خلال هذه التجربة والمعرفة المكتسبة من ناحية العزف والغناء قال بشير:
بالنسبة للعزف، التسجيل بهذه الطريقة لا يصلح معه أكثر من ثلاث آلات ( العود، والقانون، والكمان)، فلا مجال للآلات الإيقاعية كالرق والطبلة، وهو ما اضطر عازف القانون للعزف وكأنه الإيقاع، وما اكتشفناه لاحقا أن ما سجلناه كان شبيها بما وصلنا من التسجيلات القديمة من حيث طريقة العزف، وبالنسبة للعود فقد اكتشفت أنني عندما أعزف بهدوء كعادتي في العزف فإن الصوت لا يظهر في التسجيل على الرغم من أنه أقرب الآلات لبوق الفونوغراف وهو ما اضطرني للعزف بقوة حتى يظهر الصوت في التسجيل، وبالتالي توصلت إلى معلومة مهمة للغاية وهي أن ما وصلنا من عزف (سيد السويسي) في الاسطوانات القديمة لا ينبيء بالضرورة عن طبيعة عزفه وبمعنى أدق لم تكن هذه الطريقة هي طريقته في العزف ولكن كان اضطرارا ليظهر الصوت واضحا بعد ذلك في التسجيلات، كذلك الحال بالنسبة لآلة الكمان، فالتسجيل بهذه الطريقة يتطلب العزف بقوة (كعزف الربابة) وهو ما يعني فقد الكثير من الحساسية عند العزف أو العزف بجمود أكثر ليكون الصوت أكثر حدة فيسهل استقبالة على البوق وبالتالي أخذ العزف شكل العزف القديم لسامي أفندي الشوا وأنطوان الشوا وإبراهيم صهلون.
أما بالنسبة للغناء، فالتسجيل بهذه الطريقة يتطلب الغناء بقوة وبصوت مرتفع، كذلك يتطلب أن يكون العفق قوياً، لتظهر جماليات الصوت ويسهل سماعها على الاسطوانة فيما بعد، وهو ما يعني ألا مجال هنا(للقوالة) الحساسة التي استمعنا إليها بعد ذلك على التسجيلات بتقنية الكهرباء، وبالتالي توصلنا لمعلومة أخرى مهمة وهي أن ما وصلنا من أصوات قديمة كصوت الشيخ سلامة حجازي وعبد الحي افندي حلمي لم تكن دائما بتلك القوة التي نسمعها بل كان ذلك لضرورة التسجيل وهو ما يعني أنهم كانوا يؤدون الغناء الآخر الأكثر هدوءا وإن لم يصلنا لبدائية التسجيل آنذاك.
وأضاف بشير: هذه التجربة كانت بمثابة وضعي في موقف المطرب في نهاية القرن التاسع عشر، وكذلك الأمر بالنسبة للتخت، بما في ذلك من صعوبات واجهتنا وفوائد اكتسبناها، فكما أن الموسيقى فن والغناء فن فأنا أرى أن التسجيل هو الآخر فن مر بتطورات عديدة كانت جديرة بالإهتمام والبحث.
– هل تراودك أفكار أخرى جديدة بخصوص التسجيل؟؟
في الحقيقة تراودني فكرة التسجيل لايف بأحد الأماكن العامة بالقاهرة كصوان أو قهوة بلدي بأحد أحياء مصر القديمة، أنا أحب هذا المناخ للتسجيل، فإذا ما توفر العامل المادي سأخوض هذه التجربة، وإلا فسأسجل من الحفلات التي نقيمها.
ما هي النصائح التي تحب أن تقدمها لكل مطرب أو موسيقي أو حتى سميع محب للفن الكلاسيكي؟
يجب على كل موسيقي أو مطرب محب لهذا الفن أن يقرأ بقدر ما يسمع، فعليه قراءة الكتب القديمة التي خرجت من رحم هذه الفترة ويستمع إلى التسجيلات القديمة التي وصلتنا لاسيما وأنها أصبحت متوفرة ومتاحة للجميع على الإنترنت، فيحفظ قدر الإمكان ويتعلم الأدوار والبشارف والسماعيات والضروب والمقامات بطريقة صحيحة، فهذه هي الأشياء التي استمع إليها سيد درويش والقصبجي وزكريا أحمد والسنباطي وكانت بمثابة البنك الموسيقى الذي نهلوا منه فأهلهم لإخراج نتاجهم الخاص الذي نسمعه اليوم.
وختاما، أرى أن أشهر قالب من القوالب الموسيقية في ذلك الوقت والجدير بالتعلم والفهم هو قالب الدور، فنصيحتي لمن أراد أن ينمي قدرته على التحكم في الأداء والجمل الموسيقية والارتجال إن لم يكن ميالا للفن القرآني فعليه بالدور، فالدور به المساحة الارتجالية المطلوبة ويحتاج كذلك إلى دراية بالمقامات وراحة ذهنية ونفسية تمكن من تركيب الجمل الموسيقية على الكلمات وهو ما يعطي لمن أراد أن يفرض شخصيته في الغناء مبتغاه.
وأخيراً يرى الفنان طارق بشير أن هذا الفن هو المنبع الذي لا غنى عنه والذي يجب على كل موسيقي أن ينهل منه قدر الإمكان إن أراد أن يتعلم الموسيقى الشرقية الأصيلة.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال