عسكريون مبدعون .. ضباط تركوا بصمةً في الحياة الفنية والفكرية
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تعرف حياة العسكريين بأنها قاسية وأجواء عملهم ليس لها صلة بأجواء الحياة الفنية والفكرية لأنها لا تتيح لأيٍ منهم فرصة للإبداع أو حتى اكتشاف الموهبة، غير أن ذلك التصور ظاهريًا يبدو مقبولاً، لكن تاريخيًا فالحاصل غير ذلك.
ما قبل القرن العشرين .. عسكريون وضعوا أسس القوة الناعمة
مع التأسيس الحديث للجيش المصري في زمن محمد علي باشا، كان العسكريون رغم بصماتهم الحربية لهم جانب إبداعي وفكري في بدايات حكم أسرة محمد علي باشا.
محمود باشا الفلكي .. العسكري العالم
يجيء محمود باشا الفلكي على قائمة رجال العسكرية المصرية الذين تركوا بصمة علمية واضحة في مجال الفلك، فقد بدأت حياته العسكرية عام 1824 م عندما دخل مدرسة الترسانة البحرية في عهد محمد علي باشا، وتخرج منها بعد 9 سنوات، ليكمل تعليمه في مدرسة البوليتكنيك وعقب تخرجه نال رتبة الأسبران (ملازم) في مدرسة الهندسة ببولاق وتخصص في علوم الرياضيات فصار مدرسًا للجبر والهندسة، ثم ترجم كتابًا في التفاضل والتكامل عن اللغة الفرنسية.
انقطعت صلة محمود باشا الفلكي بالعسكرية عام 1842 م حينما نال رتبة اليوزباشي، ليغير مسار حياته بتخصصه في علم الفلك عندما عينه محمد علي باشا مديرًا للمرصد الفلكي بمدرسة المهندسخانة.
ترك محمود باشا الفلكي بصمات متعددة بحكم دراسته الفلكية داخل مصر وخارجها، فقد استطاع قياس شدة المجال للمركبة الأفقية للقوي المغناطيسية الأرضية في 30 مدينة أوروبية في ألمانيا وبلجيكا وجزر بريطانيا وهولندا وفرنسا.
ونجح في الإشراف على المرصد الفلكي المصري عقب بعد نقله من بولاق إلى العباسية، وكان أول من نجح في رسم خريطة للقطر المصري، كما طلبته أوروبا سنة 1860 بدراسة كسوف الشمس ورصده وتسجيله وتمكن من رصد الكسوف لحظة بلحظة وسجله في تقرير بعثه إلى أكاديمية العلوم بباريس.
كذلك فقد كان للفلكي باشا بصمة ظلت موجودة في مجال الري لمدة قرن من الزمان وهي كتابه في التنبؤ عن مقدار فيضان النيل قبل فيضانه، وصار ذلك الكتاب مرجعًا أساسيًا لتقديرات الرى في مصر.
لم تتوقف بصمات الفلكي في المجالات الفلكية والهندسية فحسب بل كان أول عالم يضع دراسة علمية عن معالم الإسكندرية القديمة.
علي باشا مبارك .. دخل العسكرية عقابًا فاستفادت حركة التعليم منه
لم يدخل علي باشا مبارك السلك العسكري إلا كعقاب، فمنذ عام 1849 م كان يشرف على تنظيم ديوان المدارس حتى العام 1854 م عندما صدر قرار من سعيد باشا يقضي بعزله من منصبه في ديوان المدارس ومن وظيفته كناظرة لمدرسة الرصد خانة، نتيجةً للضغائن التي تم زرعها في سعيد باشا تجاه علي مبارك.
وإمعانًا في العقاب قرر محمد سعيد باشا أن يعمل علي مبارك في العسكرية المصرية فجعله في القوات المصرية المشاركة ضد روسيا في حرب القرم لصالح الدولة العثمانية.
بقي علي مبارك في العالم العسكري طوال سنتين ونصف تعلم فيها اللغة التركية وارتشف من علوم الدبلوماسية حينما كان مشاركًا في المفاوضات بين رجال القيصر والقوات العثمانية، ثم تولى عمليات الإشراف الإداري للقوات العثمانية، وأسس مستشفى عسكري.
كان عصر محمد سعيد باشا صعبًا على مبارك مبارك، فلم يكن يستقر في منصب حتى جاء عهد الخديوي إسماعيل وتولى علي مبارك باشا عدة مناصب ساهمت في تحسين عهده فقد كان أحد المسؤولين عن تنظيم القاهرة الخديوي، وتحسين حال القناطر الخيرية، وكذلك إصداره للائحة التعليم ثم تولى ديوان الأشغال والسكة الحديد والأوقاف، والإشراف على حفل افتتاح قناة السويس.
وترك علي باشا مبارك بصمةً في محو الأمية، ثم أسس دار الكتب وهي المؤسسة التي لا زالت قائمة حتى الآن.
محمود سامي البارودي .. رب السيف والقلم
منذ نعومة أظافره دخل محمد سامي البارودي العسكرية، فقد التحق عام 1852 م بالمدرسة الحربية وكان عمره 12 سنة، وتخرج منها عام 1855 م وبعد سنتين التحق بالسلك الدبلوماسي الذي ظل فيه 7 سنوات، ثم عاد للعسكرية عام 1863 م واشترك في الحملة العسكرية المصرية التي ساندت الدولة العثمانية في كريت سنة 1865 م، وكذلك الحملة التي ساعدت الدولة العثمانية على ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا وصربيا سنة 1878 م.
رغم الزخم العسكري والسياسي الذي اتسمت به مسيرة محمود سامي البارودي، لكنه كان مبدعًا في مجال الشعر فقد ترك ديوانين من الشعر في جزئين، ونظم قصيدة في حب النبي صلى الله عليه وسلم تقع في 447 بيت سماها كشف الغمة في مدح سيد الأمة، وصار لقبه معروفًا باسم رب السيف والقلم.
جيل يوليو .. إثراء الحياة الفنية والفكرية برموز القلم والبلاتوه
أفرز القرن العشرين رموزًا عسكرية ترك بصماتها في القوات المسلحة، لكن في نفس الوقت كان هناك جيل عسكري ساهم في ضخ دماء جديدة للحياة الفكرية والفنية في مصر.
ثروت عكاشة عراب الإبداع
في عالم الثقافة يأتي ثروت عكاشة كأحد أشهر وزراء الثقافة المصرية فقد التحق بالكلية الحربية سنة 1939 وكلية أركان الحرب عام 1945 وبعد تخرجه منها نال دبلوم الصحافة من كلية الآداب جامعة فؤاد الأول، ثم دكتوراة في الآداب من جامعة السربون في باريس.
استفادت الثورة من ثروت عكاشة، فقد تولى رئاسة مجلة التحرير، وتولى منصب وزير الثقافة من سنة 1958 م، وتولى رئاسة المجلس الأعلى للفنون والآداب، وغيرها من المناصب التي جعلته يترك بصمة خالدة في الوجدان الثقافي المصري.
يعتبر ثروت عكاشة هو الأب الروحي والمؤسس الفعلي لفكرة قصور الثقافة في الأقاليم، كذلك مشروع كتاب لكل فلاح، فضلاً عن أنه المسؤول الأهم في عملية نقل معبد أبو سمبل، وله تراث فكري ضخم من الكتب التي ألفها في مجال الفن الإغريقي والروماني والإسلامي.
يوسف السباعي .. الفارس الأديب في الحياة الفنية
يمثل يوسف السباعي رمز أدب العسكرية والسياسة إلى جانب البصمات الرومانسية، فالأديب تخرج من الكلية الحربية في سنة 1937 وتولى التدريس فيها في سلاح الفرسان وتدرج في المناصب حتى تولى إدارة المتحف الحربي، ونال رتبة العميد.
اقرأ أيضًا
سر اغتيال يوسف السباعي في قبرص
إلى جانب الحياة العسكرية كان ليوسف السباعي بصمات أدبية فكتب مجموعة من الروايات ذائعة الصيت وبعضها تحول إلى أعمال فنية صارت علامة في السينما المصرية مثل إني راحلة وأرض النفاق والسقا مات وأم رتيبة ونحن لا نزرع الشوك وبين الأطلال ورد قلبي ونادية والعمر لحظة.
الشقيقان ذو الفقار .. الحياة الفنية جاذبة للضابطين
كان الأشقار (محمود وعز الدين وصلاح ذو الفقار) رموزًا فنية، لكن عز وصلاح لهما مذاق خاص، فعز كان عسكريًا حتى منتصف الأربعينيات بسلاح المدفعية ثم استقال والتحق بالسينما وعمل مساعدًا للمخرج محمد عبدالجواد.
بدأ عز الدين طريقه في الإخراج عام 1947 بـ 3 أفلام هم الكل يغني وأسير الظلام وأبو زيد الهلالي، وأثبتت الأفلام الثلاثة عن ميلاد مخرج سيكون له بصمات مميزة في السينما المصرية وهو ما تم فيما بعد.
كان عز الدين ذو الفقار من المخرجين الذين تركوا أفلامًا خدمت الثورة مثل رد قلبي وبورسعيد وموعد في البرج، لكنه أيضًا ترك أعمالاً رومانسية مشهورة مثل شارع الحب والشموع السوداء ونهر الحب وبين الأطلال وامرأة في الطريق.
أما شقيقه صلاح ذو الفقار فقبل أن يلتحق بالشرطة كان طالبًا في كلية طب الإسكندرية، استجابةً لرغبة أبيه وبعد رحيله التحق بكلية الشرطة وكانت رغبته في أن يكون مثل والده، إلى أن جاء العام 1955 عندما رشحه شقيقه عز ليكون بطل فيلم عيون سهرانة، ثم بدأت مسيرته الفنية التي تواصلت حتى تسعينيات القرن الماضي.
أحمد مظهر .. الفارس البطل
كان أحمد مظهر من الملاصقين لرموز ثورة يوليو قبل قيامها، فقد التحق بالكلية الحربية وتخرج منها عام 1938 وهي دفعة جمال عبدالناصر وأنور السادات.
كان أحمد مظهر قائد مدرسة الفروسية واستقال من العمل العسكري وهو برتبة عقيد ليتفرغ ويحترف مهنة التمثيل فكان أول أفلامه فيلم ظهور الإسلام.
حبات العنقود الأخير في الحياة الفنية
فتحت ثورة يوليو شهية عدد من الضباط ليعمل في المجال الفني فكان بدر نوفل بدايةً من العام 1954 بفيلم بحبوح أفندي، ثم عبدالخالق صالح لواء الشرطة الذي بدأ طريقه الفني سنة 1959 بفيلم الرجل الثاني وتأثرت حياته الشخصية بفنه فورث عنه حب الفن نجله المخرج علي عبدالخالق.
وجاءت الستينيات فكان إيهاب نافع سنة 1963 بفيلم الحقيقة العارية، وبعده بـ 10 سنوات الفنان محمود قابيل بفيلم العصفور، وفي نفس جيل قابيل كان ظهور ممدوح الليثي ضابط الشرطة الذي دخل المجال الفني عبر الإنتاج فكانت أول أفلامه التي أنتجها فيلم الكرنك، ومؤخرًا جدد الفنان أكرم حسني قائمة الضباط الذين عملوا بالمجال الفني.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال