عن العظمة.. مسلسل تشيرنوبل !

في نتيجة الثانوية العامة نجحت على “الحروكروك” في مادة الفيزياء، فقد كنت أبغض معادلاتها وقوانينها وأمقت تعاريفها ومفاهيمها، ربما لأنني كنت “لعبية” وكانت الفيزياء معقدة، أو لأنني أجبرت على دراستها، ولكنني بعد أن تخرجت من الجامعة وبدأت رحلات بحثي في الكتب والمقالات أدركت عظمتها وكيف أنها عصب الحياة.

ومنذ أن شاهدت (أولانا خاميوك) عالمة الفيزياء النووية في مسلسل تشيرنوبل، والتي تُجسّد مزيج من العديد من العلماء النوويين الذين شاركوا في عملية تطهير الإنفجار، إزداد عشقي للفيزياء وودت لو كنت في مثل ذكاء أولانا وعلمها.

المسلسل أخذني في رحلة غريبة لمدينة الأشباح، مدينة برابيت بأوكرانيا التي هٌجّرت تماما عقب انفجار مفاعل تشيرنوبل، والذي بانفجاره كادت الحياة أن تصبح مستحيلة في أوروبا بسبب انتشار إشعاعات بما يعادل إشعاعات انفجار 400 قنبلة نووية كالتي ألقتها أمريكا على بلدة هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، ويصور المسلسل المدينة التي حلت بها تلك الكارثة، وحالات المعاناة التي كانت تعيش فيها بعبقرية نادرة، فقد شعرت بأنني بداخل منازلها أسير في طرقاتها وشوارعها خطوة بخطوة مع الكاميرات في أحداث المسلسل، لدرجة أنني بحثت عن بعض الكتب، وصور وفيديوهات للمدينة بعد مرور عدة سنوات على تلك الكارثة، ووجدت أنها إلى الآن مازالت مهجورة وكئيبة بسبب وجود آثار اليورانيوم فيها.

وفي كتاب “صلاة تشرنوبل” يذكر كاتبه قصة مؤلمة عن الأطباء الذين كانوا يحذرون الجمهور بشدة قائلين :” عليك أن لا تنس أن من أمامك ليس زوجك، ولا الشخص الحبيب، بل جسم مشع بكثافة عالية من التلوث. أنت لست انتحارية.. قيلت هذه الكلمات لكل شخص أراد البقاء”.

كما يلخص المسلسل أهوال الحادث ويجعلك تعيش في أجواءه، والنتائج المترتبة عليه بطريقة سرد رائعة، بدون استنزافك أو صدمك نفسيًا، فقد قدم صُناعه رسالة مهمة باستخدام كل العناصر الدرامية، ألا وهي احترام تضحيات الآلاف بدون ابتزاز للمشاعر، وجعلوك تقدّر كل فرد وتحترمه، كمشهد قتل جميع الحيوانات، وقدموا صورة عن تفكير الجنود الأول والأخير في المدنيين الموجودين في المدينة، والذين تم إخلاءهم منها، كمشهد إطلاق الجندي النار على بقرة السيدة العجوز التي كانت لا تريد الرحيل والإخلاء، والذي ربما يكون حدثًا عابرًا جدًا بين أحداث ومشاهد المسلسل الذي يصور تلك الكارثة، وربما لا يتهم به المشاهد، ولكنه يصور على سبيل المثال عمال النظافة في أزمة كورونا، أو الأبطال الذين يتخلصون من النفايات الطبية، أو فنيين الأشعة، فهم أشخاص خارج التفكير، وما زال المشهد الأخير من مسلسل تشيرنوبل يدور في مخيلتي، وأظنه أثّر بي وغيّر في وجهة النظر التي كانت من مسلمات حياتي.

بمسلسل تشيرنوبل مشاهد سريالية عن الحكم الشمولي وبعض رجاله، فقد أوضح كيف نفى الإتحاد السوفيتي وقوع أي حادث نووي، ولكن مع إعلان الدنمارك وفنلندا والنرويج وفرنسا وغيرها تسجيل مستويات عالية من الإشعاع النووي بات من المستحيل إخفاء الحادث عن المجتمع الدولي، فتعامل الاتحاد السوفييتي مع الكارثة وقتها تماما كتعامل النظم العربية مع الكوارث ( إنكار، مؤامرة كونية، حلول عقيمة، سيطرنا على الأمور) وأخيرًا نكتشف إنهم وإننا على قمة الخازوق. بلاد تتدمر ونظم تلعب على وتر الإنتصار الوهمي!!

تشيرنوبل يستحق مكانه كأفضل مسلسل قصير، فاختيار الدراما واختيار الشخصيات واختيار الموسيقى والعناية الفائقة بالتفاصيل في الزي والديكور والجو العام، ودقته في تصوير أحداث عام 1986، وأسلوب التصوير وحركة الكاميرا، والمنطق الذي تفكر به الشخصيات، وعدم المط أو التسارع في أحداث يعرفها وعايشها كثيرون، وتبسيط المعلومات الفزيائية المعقدة، يجعلك تدرك كيفية صناعة تحفة فنية درامية عن حدث حقيقي كارثي، ولا أعتقد أنه قد تم انتاج أي عمل يمثل كارثة حدثت بالفعل بدون استفزازك أن تشاهده مرة أخرى مثل تشيرنوبل، فمشاهدته لأكثر من مرة يزيد من تقديرك له، وتقدير صناعه في كل مرة أكثر من التي سبقتها.
عندما نقول الدراما صناعة فإن تشيرنوبل هو ما نقصده حقًا.

إقرأ أيضا

عتبات البهجة .. علاقة بين فاتنة وكوز مية النار

إقرأ أيضاً

Squid Game .. أهم مسلسل درامي يفضح العالم في أخر ٢٠ سنة