قصة الموسيقى في مصر 1
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
كثيرا ما حدثتني نفسي عما إذا كان هذا العالم بلا موسيقى، أتوقف للحظات وأكاد أجن من صعوبة هذه الفكرة الممقوتة، فالموسيقى هي الروح التي تسري بها الحياة، والمناخ المتمنَّى دائما للعلاقات، وبدونها تصبح الحياة جامدة صعبة الاحتمال، فما لا توصله الكلمات أو السكوت تستطيع الموسيقى إيصاله وهي في ذلك أقدر وأبلغ، فها هو أفلاطون يقول عن الموسيقى: “الموسيقى تعطي الكون روحًا، وتعطي العقل أجنحة، وتجعلك تحلق برحلة إلى الخيال، إنها تمنح الحياة لكل شيء”.
ومنذ اكتشاف الإنسان للموسيقى وتنقيبه عن خباياها وهي تلعب دورا هاما في حياة الفرد والشعوب، فيقال دائما أن الموسيقى هي مرآة الشعوب، وبالنظر إلى تطور الموسيقى ونهضتها في بلد ما يمكن أن نتعرف على نهضة هذا البد ورقيّه.
وفي بلدنا الحبيب مصر فقد لعبت الموسيقى دوراً هاما وفعالا منذ عهد المصريين القدماء وحتى وقتنا الحالي، وتطورت تطورا كبيراً تغير معه شكل الموسيقى والغناء تغيراً كليا، فما كانت عليه الموسيقى في عهد أجدادنا الفراعنة والذي ترجمته النقوش التي تركوها اختلف عما كانت عليه في العصور التي تعاقبت بعد ذلك كالعصر الاموي والعباسي والفاطمي والأيوبي.
إلا أن النهضة الموسيقية الحقيقية قد بدأت مع عهد محمد علي باشا، فقد كان مطلع القرن التاسع عشر حافلا بالتطورات التي أدخلت على مصر ألواناً جديدة من الفنون الموسيقية الشعبية، كإحياء الموالد للأولياء وطلوع المحمل وحفلات الزفاف والسبوع، وانتعش فن المديح فكان المداحون ينشدون القصائد الدينية والتواشيح بمصاحبة بعض الآلات البسيطة وتصفيق المستمعين من حولهم، كذلك اشتهرت إقامة ليالي الأنس والطرب التي لم تقتصر على الرجال فقط بل كان للنساء حظاً منها، حتى أن المغنية إذا اشتهرت أصبح لها تختها الخاص الذي يتنقل معها أينما ذهبت، واتخذت تلك الحفلات والسهرات شكل الأمسيات التي تبدأ بحفل عشاء يتبعه غناء الصييت للوصلات بمصاحبة التخت وبحضور جمع المستمعين الذين يشجعون المطرب أو المطربة بالتصفيق والتطييب، ومع مرور الوقت تطورت تلك الوصلات الشعبية إلى القوالب الموسيقية المعروفة كالدور والطقطوقة.
وفي عهد الخديوي إسماعيل ونظراً لحالة الرخاء والاستقرار التي عاشتها مصر في تلك الفترة، وكذلك بمناسبة افتتاح قناة السويس، أمر إسماعيل ببناء دار الأوبرا المصرية، ودعا لحفل الافتتاح عددا كبيرا من ملوك وملكات اوروبا، وأسند إلى الموسيقار الإيطالي فيردي مهمة تأليف أوبرا عايدة لتقديمها في الافتتاح إلا أن الظروف حالت دون تقديمها فقدمت أوبرا ريجوليتو بدلا عنها.
في تلك الفترة بدأ الموسيقيون ينفضون عن أنفسهم غبار الخمول الذي أصابهم في فترة السلطنة العثمانية ليصبحوا روادا للتجديد والتطوير، ولتكون ثورة موسيقية غيرت ملامح هذا الفن ورسمت له خارطة جديدة دامت لأكثر من مائة عام.
على رأس هؤلاء كان المرحوم الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب الذي بزغ نجمه باكرا، فكان أول من غنى على الطريقة المصرية الحديثة، وأصبح أستاذ عصره بعد أن أتقن علم الأدوار والموشحات، ولحسن الحظ فقد تزامن مع علو شمسه قدوم الشيخ أحمد خليل القباني الدمشقي من الشام الذي تزعم حركة الموشحات الحلبية والتركية، حينئذ قرر المسلوب أن يؤسس مدرسة غنائية مصرية الطابع، وبالفعل أسس للموسيقى في مصر أعظم أساس نغمي نابع من طبيعتها وبطعمها وبلون شعبها فكان صاحب الفضل الأول في خلق موسيقانا المصرية لا سيما قالب (الدور)، ثم تزعم هذه المدرسة من بعده محمد عثمان وعبده الحامولي الذي نبغ في الغناء وذاع صيتة إلى أن وصل للخديوي إسماعيل فألحقه بحاشيته، مما أتاح له فرصة سماع الألحان التركية ومن ثم ساعده على تقديم الألحان التي جمعت بين المزاج المصري والمزاج التركي، ليس ذلك فحسب بل كان لعبده الحامولي السبق في استخدام الكثير من المقامات التي لم تكن شائعة بالقطر المصري كالحجاز كار والعجم وغيرها، كذلك كان أول من لحن القصائد التقليدية كقصيدة (أراك عصي الدمع)، وقد تولى محمد عثمان والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب مهمة تلحين أغانيه، ومن رحم هذه النهضة خرج الكثير من المطربين والمطربات الذين رسموا تاريخا حافلا بالأعمال الخالدة أمثال الشيخ سلامة حجازي وعبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وغيرهم
ومع انتهاء القرن التاسع عشر ودخول القرن العشرين ظهرت شركات الاسطوانات كشركة أوديون وشركة بيضافون وشركة زونوفون وغيرها من الشركات التي تعاقدت مع الكثير من هؤلاء المطربين والمطربات أمثال الشيخ سلامة حجازي والشيخ يوسف المنيلاوي والمطربة منيرة المهدية فبدأ الغناء المصري ياخذ شكلا جديدا ولكنه لم يختلف كليا عن الغناء الذي ساد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قدمت شركات الاسطوانات الطقطوقة بشكلها البدائي فلاقت نجاحاً كبيرا إلا أن هذا النجاح لم يدم طويلا ففي ثلاثينيات القرن العشرين طور الشيخ زكريا أحمد هذا القالب تطويرا غير ملامحه، فلحن أغصان الطقطوقة بألحان مختلفة بعد أن كانت تلحن كلها على لحن واحد، وبدأ الفن القديم للحامولي وأقرانه ينزوي إلي حيز النسيان، كذلك بدأت الأغنية المصرية بشكل عام تأخذ شكلا آخر أكثر تطورا خاصة بعد التقاء مؤلفي القصائد التي كتبت باللغة القاهرية( كشاعر الشباب أحمد رامي وأمير الزجل بيرم التونسي ) بالموسيقين والملحنين آنذاك فظهرت المونولجات والأغاني المطولة لتدخل الأغنية المصرية عصرا جديدا بزغ فيه نجم الآنسة أم كلثوم والأستاذ محمد عبد الوهاب والست فتحية أحمد وهو ما سنتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله.
أما على صعيد المسرح الغنائي، فقد كان الشيخ أحمد القباني الدمشقي أول من أسس للمسرح الغنائي العربي في مصر بعد قدومه من دمشق، وورث عنه الشيخ سلامة حجازي زعامة هذا الفن فبعد وفاة الحامولي عام 1901م تربع الشيخ سلامة حجازى على عرش الغناء نظرا لما كان يملكه من حسن الصوت ونقائه وقوته، ومن بعده ترأس زعامة المسرح الغنائي الشيخ سيد درويش الذي أحدث طفرة في هذا الفن فأحل الموسيقى التعبيرية والتصويرية محل الموسيقى النغمية والطربية مخالفاً في ذلك نهج الشيخ سلامة حجازي حيث جعل من الموسيقى المسرحية أداة للتعبير والتصوير، ومن بعده ورث تلك الزعامة الشيخ زكريا أحمد الذي بدأ التلحين المسرحي عام 1924م مقدما أكثر من 500 لحن في 65 مسرحية.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال