كتب الحب الأول
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد
الكتب الأولى التي قرأناها في صبانا ومراهقتنا، أشبه بـ الحب الأول، لا يستمر، لكن لا ينسى، فهو لم يخلق ليشيد لنفسه بنيانا خالدًا، بل ليطلق خيالا وشهبا، وسيلة القدر كي نفهم أن قلوبنا التي حصنتها الأيام بالغلظة والحذر خوفا من الأخيلة والحرائق، كانت قادرة ذات يوم أن تعرض نفسها بكل هشاشة وكرم لذلك الشيء الغامض الذي يدعى الوقوع في الغرام بحمى المندفع نحو النار والتائق للذوبان فيها جسدا وروحا، حيث يتوحد الحب مع الحبيب، ونعمى عن حقيقته كمرشد متشرد مجنون، ونصنع منه إلها معصوما من الزلل، تعطيل إرادي لكفر لمراهق من حيث كونه عقل متشكك وفورة أسئلة تغلي.
لا يستمر الحب الأول أو ينجح، ومن أنقاضه ينبعث الأريج لا الرماد، يسكن قوارير مغلقة بعناية داخل مخابئ القلب والذاكرة.
حبي الأول تندرج تحته قائمة طويلة من الكتب، من بينها أولاد حارتنا التي قرأتها عدة مرات في الصف الثاني أو الثالث الإعدادي، ولم تشغلني محاكاتها لقصص الأنبياء؛ لأن كل ما كنت أتبعه بلهاث هو مغامرة أبطال الرواية في معارك الفتوات من الهزيمة المطلقة إلى الانتصار لتحقيق العدل.
ومن بين تلك الكتب أيضا رواية عودة الروح لـ توفيق الحكيم ما زلت أتذكر كيف ضحكت مع تصرفات أعمام محسن وحبهم جميعا لسنية الذي انتهى بخيبة أمل بلا مرارة عندما أحبت جارهم مصطفى، لا أذكر الكثير من أحداث الرواية، لكني مازلت أستشعر الأنفاس المبهجة لتلك الأحداث، وربما توحدت بطريقة ما مع الصبي محسن.
وكذلك كتاب ” أعجب الرحلات في التاريخ” لأنيس منصور، ربما مع العمر لم يعد أنيس منصور في أذهاننا إلا مجرد مزحة عاملها عصرها بجدية لا تبدو مفهومة لنا الآن وهو أمر صرت أنا نفسي على يقين منه، لكني يمكنني أن أتسامح مع هذا الكتاب تحديدا، لقد قرأته عشرات المرات في صباي، وفي كل مرة لم تقل متعتي، أما مقابلته للدلاي لاما، وكيف أصابه منصور بنزلة برد وهي الواقعة أوردها في ذلك الكتاب إن لم تخني الذاكرة، فلم تزعجني حينها، حيث أمتع الخيال أكذبه، وقد خضت رحلات من أورد ذكرهم في الكتاب كهانيبال والإسكندر وهيرودت وماركو بولو وابن بطوطة وآخرين كأني هم، رغم أني لم أبرح مكاني، لكن إن لم أتمكن من مجاراة كذبة أني فعلت، لما كان لذلك الكتاب ذاك الأثر، فالقراءة نفسها خصوصا قراءة الرواية أو أدب الرحلات بوصفه فعلا يحدث في الخيال أولا، أمر تعتمد متعته على اعتناق الكذبة وشيء من تقمص حيوات أبطالها. هي الحقيقة نفسها التي اهتدى لها إيتالو كالفينو، في روايته مدن لا مرئية التي يصف فيها الرحالة ماركو بولو لقبلاي خان، المدن التي رآها في رحلته، عندما ينتبه قبلاي خان، أن المدن التي وصفها له لم تكن إلا مدينة منشأ ماركو بولو، البندقية، بتنويعاتها الساحرة والمستحيلة.
ماذا إذن؟ مغامرة نصف نبي ونصف فتوة لتحقيق العدل العصي كسراب، كجزرة حمار لا غنى عنها للسعي، وصبي يحوطه دفء العائلة وتناقضها ومساخرها يعيش حبه الأول مع سنية وحيث خيبة الأمل لا تعرف المرارة بل هي دافع لمزيد من الحيوية كأنما عودة الروح للحياة لا تتم إلا بفهمهما كسلسلة من عراك مبهج، وكذلك هي رحلة يكون الكذب والتخيل فيها هو شرط متعتها، قرأت فيما بعد كتبا أهم وأكثر تعقيدا من تلك الكتب الثلاث، التي ربما يراجعها المرء الآن بإدراك لحدود سذاجتها، لكني لا أفهم الكتابة الآن خارج شروط كتب الحب الأول، أو ربما أنسى، وكلما نسيت مر أريجها العفي المحمي من أسئلة العقل، ليذكرني بها.
بالطبع سبقت مرحلة قراءة تلك الكتب وتزامنت معها حتى أبواب الجامعة، كتب الجيب والقصص المصورة، هناك قصة لا أنساها أبدا في أحد أعداد ميكي جيب، ربما تكون أول قصة قرأتها في حياتي، وكان ذلك في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي، وهي قصة عن عثور بندق على سبع حبات كريز، كل حبة منها قادرة على أن تحقق شيئا مستحيلا.
أظن أن شرط تلك القصة البسيطة يفوق حتى الشروط الثلاث الأولى لكتب الحب الأول ويحكمها جميعا، الحكايات وحدها قادرة على أن تمنحك حبات الكريز السحرية التي تفك كل واحدة منها عقدة المستحيل.
لم أتوقف من حينها عن الغرام بقراءة القصص، وها أنا الآن في الأربعين من عمري مازلت أحاول كتابتها سعيا ربما لتكريم الأشعة الدافئة الأولى التي أضاءت بها تلك الكتب البسيطة والساذجة والبريئة شمس المخيلة.
الكاتب
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد