كيف كانت شخصية ” كشكش بك” تطورًا مهمًا في تاريخ المسرح المصري

إنّ المسرح بشكله الغربي لم يعرفه المصريون سوى في عهد الخديوي إسماعيل ـ كجزء من اهتمامه بالحركة النهضوية التي أرادها لمصر الحديثة ـ وما قلبها من إرهاصات بدأت مع قدوم الحملة الفرنسية والحملات التبشيرية ( الإنجليزية ـ الفرنسية) مصر.

ولعل التاريخ يسجل أول مكان أقيمت فيه مسرحيات على الأراضي المصرية وهو Tivoli بالأزبكية، كما يحفظ التاريخ تمثيل أول مسرحيتين في مصر وهما مسرحيتي ” الطحانين” و ” زايس وفلكلور”، وقد شارك في تمثيلهم أغلب علماء الحملة الفرنسية، وكذلك عرف المسرح المصري عن طريق الحملة الفرنسية وجود أول فرقة مسرحية في القاهرة من أعمال الفرنسي “هانج وديفير”، وكانت تقوم هذه الفرقة بتمثيل مسرحيات “مولير” و”فولتير” كل عشرة أيام “.

انطلق المسرح المصري حقيقةً على يد “يعقوب صنوع”، وقدم مسرحًا تربويًا اجتماعيًا سياسيًا، بعد أن درس سيكولوجية الجمهور المصري وعرف أن تقاليدهم وأعرافهم أولًا وهذا أول ما قاله في خطبته للجمهور قبل عرض مسرحيته الأولى.

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تطور المسرح المصري وأرسى قواعده في التربة المصرية عن طريق الفرق الشامية ، ثم فرقة الشيخ “سلامة حجازي” ، وفرقة “أولاد عكاشة” المنبثقة منها، مرورًا بدور عبقري المسرح والغناء” سيد درويش”، إلى أن جاءت حقبة الكلاسيكية الجادة مع “جورج أبيض” وفرقته التي اعتمدت على المسرحيات المترجمة، ثم “عزيز عيد” وفرقته التي جاء بمسرحيات تعتمد على إثارة الجدل وما يتنافى مع تقاليد المجتمع وقتها حتى أن هناك مسرحية بعنوان” سكرة بنت دين كلب” و مسرحية أخرى ” خلي بالك من إيملي” وهي مسرحية اعتمدت على الإيحاءات الجنسية الصارخة وغيرها من المسرحيات التي أدت بفرقة “عزيز عيد” إلى الهاوية في الوقت الذي بدأ يظهر فيه نجم ” نجيب الريحاني” وفرقته التي اعتمدت على تقديم الكوميديا الجادة من وحي الشخصية المصرية .

في صيف 1916م خرج “نجيب الريحاني” للجمهور المصري وبدأ حقبة مسرحية جديدة فبدلًا من تمصير المسرحيات وترجمتها عن مسرحيات أوروبية كما فعل “جورج أبيض” ألفها من وحي ثقافته الشعبية المصرية ومثلها وأخرجها.

ولم يظهر نجم “نجيب الريحاني” صدفةً بل كان له صولات كثيرة مع الفرق الأجنبية، حيث شارك في أعمال كثيرة فقد كانت أول مسرحية شارك فيها كانت مسرحية ” الملك يلهو” وقد ترجمها “أحمد كمال رياض” وكان وقتها في السادسة عشر من عمره .

وقبل أعماله المسرحية الخاصة وظهور فرقته الكوميدية ، كان ” الريحاني” يميل الدرام وحده دون الكوميديا، فكان يعرض قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعري .

وجد ” الريحاني” ضالته الفنية حينما قابل ” أمين عطا لله ” وسافر معه إلى الأسكندرية لينضم إلى فرقة ” سليم عطا لله ” ، وأُسندت إليه الدور الثاني في مسرحية ” شارلمان الأكبر” وكانت هي خطوته الأهم و الأكبر، فقد تماشى هذا مع حبه للدرام من ناحية ومن ناحية أخرى خرج من ثوب الكومبارس إلى أدورا ملموسة مؤثرة ، ولعل هذا ظهر في أداءه نهاية الفصل الثالث من رواية ” شارلمان ” حيث كان هناك حوار بينه و بطل الرواية ” سليم عطا الله” تحول من خلاله إلى طريق آخر إذ حالفه النجاح بشكل كبير حتى أنه طغى على البطل نفسه ومن هنا عرفه الجمهور والنقاد .

وعلى الرغم من عشق الريحاني للدرام، إلا أنه امتلك موهبه فذة في خطف ضحكات الجمهور من خلال أدواره مع “فرقة الكوميدي العربي” ولعل شخصية كشكش بك هي من ضمن عبقرياته الخالدة .

كشكش بك أول مرة
عمد الموضوع إلى تناول شخصيات واقعية اجتذبها ” الريحاني” من خلال عمله في البنك الزراعي، وهي شخصية العمدة القادم من الريف إلى القاهرة وما يحمله من مال أضاعه على الفاتنات الحسان( شخصية العمدة الساذج) ، وفعلا قدم الريحاني هذه المسرحية الكوميدية في زمن عشرين دقيقة و جعل اسم الرواية” تعالي لي يا بطة “.

يعترف ” نجيب الريحاني ” في مذكراته ويقول :” وفي ظهر يوم الافتتاح كنا نجري البروفة النهائية ، وقد أحسست حينذاك أن روايتي هذه تعتبر مثلا أعلى في السخافة وأنني لو كنت بين الجمهور أثناء تمثيلها لما وسعني إلا أن ألعن خاش المؤلف، والمؤلف بالطبع هو أنا والمخرج هو أنا والملحن برضه أنا ” .

نجحت رواية ” تعالي لي يا بطة” واستحسن الجمهور شخصية كشكش حتى أنه ألف روايات أخرى مثلها على خشبة المسرح حملت نفس شخصية البطل لكنه ارتقى كما يقول الريحاني :” في الرواية الثانية ارتقى كشكش بك عمدة كفر البلاص وصار يستصحب في تنقلاته أمينًا خاصا هو ” ادلعدي” زعرب ( شيخ الغفر) وقد أسندت هذه الشخصية إلى ” عبد اللطيف المصري”.

وأخرج رواية ثالثة باسم” بكرة في المشمش” و” بلاش أونطة” وهنا بدأ المسرح المسري يأخذ شكلا آخر إذ امتزج الجمهور البسيط بوجهاء القوم وتضاعف الجمهور.

إن شخصية ” كشكش بك ” لم تكن شخصية مختلقة بل هي شخصية واقعية موجودة كتب عنها ” الجبرتي” في تاريخه، وهي شخصية وإن كانت كوميدية فهي رمزية تعبر عن ” الرأسمالية الريفية” التي عانى منها المصريون إلى ثورة يوليو 1953م.

إقرأ أيضا

فرح أنطون.. حياة ملتهبة لا تعرف حدًا للحرية و الفكر

ويسند التاريخ الفني لنجيب الريحاني أنه أول شخصية ابتكرت ” الفرانكوعرب” نتيجة حضور الجنود الأجانب لمسرحياته، وتعتمد على قول كلمة أجنبية ما ولها دلالة ومفهوم آخر في العربية ، وهو ما يثير الضحك بين الجمهور .

قدم ” نجيب الريحاني” الكوميديا ذات المغزى السياسي ومنها ” الجنيه المصري” و “حسن ومرقص وبوهيم ” و ” ثلاثين يوم في السجن”و ” لو كنت ملك” ” حكم قراقوش” ، ويمكن ذكر أسماء مسرحيات الريحاني التي اعتمدت في المقام الأول على الكوميديا ” تعاليلي يا بطة” و ” على كيفك” العشرة الطيبة وهي مسرحية غنائية أقرب للأوبرت ، ومسرحية مملكة الحب ” و ” أيام العز” و ” ريا وسكينة” .

في الوقت الذي كان يقدم فيه ” الريحاني” الكوميديا الهادفة أو الجادة ظهر نجم ” علي الكسار” الذي أخذ الكوميديا في مرحلة أخرى بل أخذ المسرح المصري في حقبة أخرى رغم كونهما كوميديا!.

نجيب الريحاني هو مرحلة مهمة وتحول مهم في تاريخ المسرح المصري، و إن غفل مؤرخي الفن المسرحي عن تكوين ” الريحاني ” الديني والتعليمي فهو ابن مدارس الإرساليات الأجنبية التي أصلت فن المسرح المصري بمفهومة الحديث، فتكوينه المجتمعي طغى على تكوينه الديني وإن قدم ” حسن ومرقص وكوهين ” ، إذ أن أغلب مسرحياته تتناول قضايا مصرية خالصة ، فهو ابن بيئته بفنه وأصالته.

اقرأ أيضًا: كيف يعالج المسرح المصري الهيمنة الذكورية في المجتمع ( دراسة )