ماترويه المقابر ..حارس المقبرة يتساءل: لماذا لا يزور الجمهور قبر الفنانة شادية قبل أن تمل؟
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
“إنني أشعر بالفزع كلما تخيلت بأني لم أقدم للناس شيئاً لكن هذا الحب الذي أراه في أعينهم يعيد السكينة إلى قلبي.. إذن فقد استطعت أن أفعل شيئاً”..قالت فاطمة أحمد كمال شاكر الشهيرة بـ”شادية”.
حارس المقبرة، قال “لم يزرها أحد”، فسألته في اندهاش:”شادية، محدش بيزورها خالص، إزاي؟”، رد:”آه ولله محدش بيزورها خالص يا أستاذ!”.
في اللحظة التي يحاول فيها حارس البحث عن مفتاح المقبرة، تساؤلت في نفسي وسط كل هذا الهدوء، هل تغضب الفنانة من رنة المفاتيح، من الصوت الخشن لحارس المقبرة؟ فقد كانت تنزعج أيما إنزعاج من صوت حبيبها وزوجها صلاح ذو الفقار، دفعها صوته العالي إلى الملل، كرهته، كان هو العيب الأول الذي وقعت عليها عيناها.
ورغم انزعاجها، والأرق الذي عذبها من الصوت العالي، تجاوزت هذا العيب، أملًا في إصلاحه، وجاء دور التساؤل الأهم والأجدى: كيف تقضي أيامها وحيدة، دون أن يزورها أحد؟، فقد كان كل ما يؤرقها في أيامها الأخيرة، الوحدة، لا شيء سوى الوحدة وانقباضات الليالي التي تقضيها بمفردها، كان يعذبها، كونها امرأة بلا زوج وفي، بلا طفل تحبه، بلا مقابل لما أعطته!
وفجأة، قطع صوت حارس العقار، كل هذه التساؤلات، وأشار بيده، ناحية بعض “الشخابيط” على جدار المقبرة، فكتب بعض الزوار “شادية” على الجدارن، بآلة حادة.
ظل الجمهور معلقًا بها حتى لحظاتها الأخيرة، يحاول الاطمئنان عليها دومًا، يريد أن يعرف أحوالها، فقد نالت شادية محبة واحترام الجمهور بعد قرار اعتزالها، لم تزايد أو تنطق بكلمة واحدة، تدينها أوتدين الفن، بل انزوت وهي حزينة، حزينة للغاية.
تحكي في مذكراتها التي دونتها عنها الكاتبة إيريس نظمي، تقول الفنانة الراحلة، عن قرار اعتزالها:”إنه أصعب وأخطر قرار في حياة الفنان، وهو لذلك يحتاج إلى شجاعة، فالشجاع هو الذي ينسحب في الوقت المناسب، يختفي وهو في قمة القوة والنجاح والمجد، وقبل أن تنحسر من حوله الأضواء، وقبل أن يبتعد عنه جمهوره، وحتى لا يضطر هذا الجمهور أن يحييه ويصفق له بدافع الشفقة وليس بدافع الإعجاب، والنجاح متعة يعرفها الناجحون، والأضواء لها سحرها الذي يعرفه النجوم”.
ظلت حائرة بعد القرار الأصعب والأقسى، لم تكن شجاعة أبدًا في اتخاذه، كانت تسأل نفسها دومًا:هل حان وقت الاعتزال؟ هل جاءت الساعة التي لابد أن تقول فيها لكل شيء وداعًا؟ هل لابد أن تختفي بإرادتها قبل أن تضطر خائبة للاعتزال وسط كلمات الشفقة والعطف؟
الملل هو المرض المزمن الذي عانت منه شادية طوال حياتها!
نعود قليلًا، إلى وقت زواجها من الفنان صلاح ذو الفقار، الذي حلمت معه بالإنجاب، لكن انزعاجها من صوته العالي دائمًا، كان يؤرقها، لكنها تخطت هذه العيب، وبعد الحمل، كانت تستعد فقط للأمومة، وكانت على استعداد أن تترك الدنيا بماعليها، من أجل هذا الحلم.
تحكي في مذكراتها، وتقول:” إنها أسعد لحظة فى حياتى تلك التى شعرت فيها بأول حركة للجنين فى بطنى، إن حياة جديدة تولد داخلى، شعور جديد لا أعرفه من قبل بدأ يستولي على قلبي وكل أحاسيسي، شعور لا تعرفه إلا الأم، إن الحلم الذى انتظرته طويلاً بدأ يتحقق أخيراً، ونسيت السينما والأفلام والاستديوهات والأضواء بل نسيت العالم كله ولم أعد أفكر ولا أهتم إلا بطفلى وتجربتى الأولى مع الأمومة”.
وبدأت شادية تراقب الأيام والساعات والشهور، وتتابع حركة الجنين في أحشائها، مضى سبعة أشهر، باقي من الزمن شهرين، وهي في انتظار طفلها، لتلاعبه وتطعمه وتحتضنه وتقبله بحب، كانت شغوفة بالأمومة، وترى أنها حب لايضاهيه حب آخر في العالم.
فقدت شادية حلمها، حلم الأمومة، بعدما نقلوها إلى المستشفى، بعد أن سمعت صوت بائع الناي في الشارع يغني “وحشني وانت قصاد عيني”، ودندنت معه، كانت تغني في مخيلتها لطفلها، لكنها استفاقت على سرير في المستشفى، وهي تصرخ من ثقل المصيبة، وعادت لمنزلها، وبكيت كما لم تبك من قبل.
ونعود إلى الملل، الذي يدفعها لاتخاذ قرارتها المصيرية، فبعد أن فقد حلم الأمومة والانجاب، عاد صلاح ذو الفقار إلى صوته العالي مرة أخرى، رغمًا عنه –كما قالت- يعلو صوته لأي أمر تافه، وكثرت المشاكل، بدأت هي تعمل في السينما، وهو انشغل بأفلامه، وانشغلا عن بعضهما البعض، قالت:”كنت قد وصلت لدرجة من الملل كان من المستحيل السكوت عليها”.
وانفصلت عن صلاح ذو الفقار، بدافع الملل.
بدأ قرار الاعتزال يدور في عقلها، بدافع الملل أيضًا، كل حفلة هي تكرار لحفلة سابقة، كلمات الأغاني هي نفسها، أماكن جلوس الفرقة الموسيقية لم تتغير، حتى الديكورات التي تقف وتغني بينها في الحفلات لم تتغير، قالت:”لاجديد، لاجديد، وأعصابي لم تعد تتحمل ذلك كله، والصبر كما يقولون له حدود، ونفذ قراري الذي أتخذته، لاعودة، لاعودة، فما الجديد الذي سأضيفه؟”.
لكن هل نفذ القرار؟، لا، غلبتها نزعة الفن بداخلها، أرغمتها على العودة، اشتاقت لعذابات الفن، ضعفت أمام ذكريات البلاتوهات والأضواء، وعادت مرة أخرى، لتتفتش عن الجديد الذي تحلم به.
لكن تعاونها مع رمسيس نجيب في فيلم “وادي الذكريات”، لم يكتمل، الرجل قد رحل، قالت:” وبعد رمسيس نجيب يذهب حسن رمزي الذي ارتبطت به عن طريق المرأة المجهولة.. إن الشموع تنطفيء.. لكن العزاء الوحيد أنها أضاءت للناس طريق الحياة والحب والأمل.. وأنا شمعة من هذه الشموع.. وأرجو أن أكون قد أضأت بكل الأدوار والأغاني التي قدمتها بريق الأمل في نفوس الناس وأن أكون بالنسبة لهم ذكرى سعيدة في الليالي الحزينة.. بسمة فوق وجه كل حزين.. أنيسة لكل قلب.. بلسماً للقلوب الجريحة”.
أصبحت فاطمة أحمد كمال شاكر، غاضب، ساخطة على حال السينما، وساخطة على نفسها لأنها عادت من جديد لهذه الأوضاع التي تثير الحنق والغضب، وبدأت تحاسب نفسها وتعنفها، لماذا ضعفت وتراجعت عن قرارها؟
لكنها، وياللأسف، فكرت، ماذا ستفعل بمفردها في البيت؟ كيف تقضي أوقاتها بمفردها؟ كيف تتعامل مع الوحدة القاتلة؟ والفراغ؟ لماذا لا يوجد زوج أحبه ويحبني؟ أو طفل أمنحه كل وقتي وعطفي؟ لكيف أتعامل مع الانقباض الذي يغتال صدري في الليالي القاتمة؟
ورغم هذه التساؤلات، تعود مرة أخرى إلى السينما، أيضًا؟ بعد مكالمة هاتفية من أحد المخرجين الشباب، تجد نفسها، موافقة على المشاركة معه في فيلم، اختارت العذاب الممتع، حلو المذاق، اختارت عذاب الفن.
واعتزلت، شادية، بلا رجعة.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال