همتك نعدل الكفة
82   مشاهدة  

“متبقاش حنبلي” ماذا فعل الحنابلة حتى تلتصق بهم هذه المقولة؟

متبقاش حنبلي
  • باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



أصبحت عبارة “متبقاش حنبلي يا آخي” مرادفًا لوصم كل من يظهر التزامًا صارمًا أو يحرص على الدقة في السلوكيات، في إسقاط تاريخي على صرامة المذهب الحنبلي.

وقد تناولت وسائل إعلام مختلفة هذه المقولة بالنقاش، مما أثار استياء أتباع المذهب، الذين أشاروا إلى أن التشدد ليس سوى اتهامٍ باطل طال الإمام “أحمد بن حنبل” [780م – 855م] وأتباعه من الظالمين (النموذج هـنـا) وعلى الجانب الآخر، قدّم البعض أمثلة تُثبت أن الحنابلة لم يكونوا يومًا دعاة تشدد، بل كانوا حراسًا للعلم وميزانًا للوسطية، بعيدين عن أي مغالاة.[1]

مشكلة انتشار المذهب الحنبلي والطريق إلى جملة متبقاش حنبلي

رسم تخيلي للإمام أحمد بن حنبل
رسم تخيلي للإمام أحمد بن حنبل

لم تكن شهرة العبارة المتداولة “متبقاش حنبلي” نتيجةً لانتشار الفقه الحنبلي بحد ذاته، بل عند التأمل في تاريخ هذا المذهب الفقهي نجد ظاهرة تستحق التوقف، فقد ظل أتباع الإمام “أحمد بن حنبل”، عبر العصور الإسلامية، أقلية بين أتباع المذاهب الأربعة، لدرجة لفتت أنظار “الحنابلة” أنفسهم، فقال أحدهم أبياتًا
يقولون لي قد قَلَّ مذهبُ أحمدٍ * وكلُّ قليلٍ في الأنامِ ضئيلُ
فقلتُ لهم: مهلًا، غلطتم بزعمكم * ألم تعلموا أنَّ الكرامَ قليلُ
وما ضَرَّنا أنَّا قليلٌ وجارُنا * عزيزٌ، وجارُ الأكثرينَ قليلُ.[2]

اقرأ أيضًا
المذاهب الفقهية الأربعة وطُرق انتشارها في العالم الإسلامي

وتناول “ابن خلدون[1332م – 1406م]، في معرض حديثه عن قلة انتشار المذهب الحنبلي الأسباب التي أدت لذلك بقوله «فأمّا أحمد بن حنبل فمقلّده قليل لبُعْد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرّواية وللأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشّام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر النّاس حفظا للسّنّة ورواية الحديث وميلا بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن».[3]

تمثال نصفي لإبن خلدون في مدينة بجاية في الجزائر
تمثال نصفي لإبن خلدون في مدينة بجاية في الجزائر

لكن الشيخ “محمد أبو زهرة” [1898م – 1974م]، رفض تفسير “ابن خلدون” لقلة انتشار المذهب الحنبلي بين العامة، وأكد “أبو زهرة” أن هذا المذهب، على عكس ما يُشاع، هو من أكثر المذاهب اجتهادًا وانفتاحًا على الاستنباط في المسائل التي لم يرد فيها نص، وأوضح أن علماء الحنابلة تمكنوا عبر التاريخ من التوفيق بين أعراف المجتمعات المختلفة ومصادر الشرع، بما يتيح تقديم أحكام جديدة تلائم متغيرات الزمان والمكان.

الشيخ محمد أبو زهرة
الشيخ محمد أبو زهرة

وأشار “أبو زهرة” إلى أن مصر، عند تعديل قوانين الأحوال الشخصية والمواريث، وجدت في المذهب الحنبلي معينًا غنيًا للأحكام التي تراعي الاحتياجات الاجتماعية الحديثة، كما أشاد بتجربة لجنة الأحوال الشخصية عام 1926م، التي اقترحت العمل بشروط الزواج التي تضعها المرأة، إلا أن هذا المقترح قوبل بالرفض حينها لعدم استعداد المجتمع لتقبل هذا التجديد، وفيما يتعلق بادعاء قلة الاجتهاد، أكد “أبو زهرة” أن العامة لا تختار المذاهب بناءً على غزارة الاجتهاد أو قلته، بل تتأثر بوجود الدعاة للمذهب والسلطان المروج له، وأوضح أبو زهرة أن قلة انتشار المذهب الحنبلي تعود إلى أسباب اجتماعية وسياسية أكثر تعقيدًا، تستوجب من الباحثين دراستها وفهمها بعمق.[4]

متبقاش حنبلي
قانون الأحوال الشخصية سنة 1929م

ومن الأسباب التي جعلت المذهب الحنبلي أقل انتشارًا بين العامة، أنه جاء في آخر المذاهب الأربعة وجودًا، وكان الإمام “أحمد بن حنبل” وتلاميذه من بعده يبتعدون عن السلطان، وينأون عن تولي الولايات، اتباعًا لسيرته الزاهدة، وإذا كان السلطان قد لعب دورًا في ذيوع المذهب الحنفي في العراق، والمذهب المالكي في الأندلس والمغرب، فإن انصراف الحنابلة عن تولي القضاء أثر سلبًا على انتشار مذهبهم بين العامة، رغم أن علماءهم قد أخلصوا الجهد واجتهدوا في تطويره.

مسجد وعالم - من رسومات رودولف إرنست
مسجد وعالم – من رسومات رودولف إرنست

وفي حين أن “أبو حنيفة” [699م – 767م]، كان يرفض التقرّب إلى السلطان أو تولي أي ولاية، فإن تلاميذه ساروا على نهجٍ مختلف، فتولى “زُفَر بن الهذيل” [728م – 775م]، قضاء البصرة في حياته، وجاء من بعده “أبو يوسف” [731م – 798م]، و”محمد بن الحسن” [748م – 804م]، اللذان توليا القضاء في عهد “هارون الرشيد” [766م – 809م]، حتى أصبح “أبو يوسف القاضي” الأول للدولة بلا منازع.

قبر أبو حنيفة
قبر أبو حنيفة

أما الإمام “أحمد بن حنبل”، فلم يقترب من السلطان، ولا سار تلاميذه على نهجٍ يجعلهم يطلبون الولايات، بل غلب عليهم الزهد والتعبد، حتى قلَّ منهم من تولى القضاء.

قبر أحمد بن حنبل
قبر أحمد بن حنبل

من أبرز العوامل التي حالت دون انتشار مذهب الإمام “أحمد بن حنبل” بين عامة الناس هو التعصب الشديد الذي اتسم به أتباعه خلال حياته وبعد وفاته، فقد اكتسب الإمام منزلة رفيعة نتيجة صبره على أزمة “خلق القرآن“، مما جعله محط تقدير واسع، إلا أن تعصب أتباعه، الذي قد يكون محمودًا عند العلماء إذا ارتبط بالدليل والحجة، انعكس سلبًا عندما انتقل إلى العامة الذين تمسكوا بالألفاظ دون فهم لمعانيها، ويبرز مثال مشابه في تاريخ الفرق الإسلامية مع الخوارج، الذين قادهم التعصب إلى التمسك بالشعارات وقتال المسلمين وإراقة الدماء بسببها، خاصة عندما انتقلت أفكارهم من الخاصة إلى العامة البدو.

حلقة علم - رسم عُثمان حمدي بك
حلقة علم – رسم عُثمان حمدي بك

وبرزت مظاهر التعصّب في أواخر حياة الإمام “أحمد بن حنبل” واستمرّت في الظهور بعد وفاته، خصوصًا في بغداد وعددٍ من مدن العراق، وشهدت تلك الفترة نقاشات واسعة حول قضية “خلق القرآن”، والتي اتّسمت في كثيرٍ منها بالجهل وغياب الحجّة الواضحة، ولعلّ أبرز ما عكسته تلك النقاشات هو اختزال القضية في عبارة “غير مخلوق”، التي أصبحت تذكرةً للإفلات من المساءلة دون النظر إلى قوة الدليل أو صدق اليقين.

من الكتب التي تناولت تاريخ خلق القرآن
من الكتب التي تناولت تاريخ خلق القرآن

قد لاحظ هذا المعنى “ابن عقيل الحنبلي” [1040م – 1119م]، فقال: “هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب المذهب الحنفي والشافعي إذا برع أحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سببًا لتدريسه واشتغاله بالعلم، أما الحنابلة، فإنه قلَّ منهم من تعلق بطرف من العلم إلا نبذ ورد، ولو للتروي والتفكير”.[5]

من مخطوطات الفقه الحنبلي
من مخطوطات الفقه الحنبلي

ولقد استنكر المفكرون من الأمة تلك الحال، حتى إن “ابن قتيبة الحنبلي” [828م – 889م]، الذي كان يعيش في ذلك العصر، ألّف رسالة وصنّف فيها كيف كانت الاختلافات تجري بحدّة وعنف بين الذين لا يعلمون في هذه المسألة ويتكلمون من غير بيّنة، كما أوضح كيف كان المحدّثون، وعلى رأسهم الحنابلة، يُكفّرون أو يحكمون بالبدعة على كل من لا ينطق بكلمة “قديم” مضافة إلى أي شيء يتصل بالقرآن.[6]

إقرأ أيضا
ملابس الشتاء

ماذا فعل أتباع المذهب الحنبلي حتى قيلت جملة متبقاش حنبلي

مصر في رسومات المستشرقين
مصر في رسومات المستشرقين

وشهد المذهب انتشارًا ملحوظًا في بداياته بالعراق وبعض مناطق ما وراء النهر، وبلغ ذروته في بغداد خلال أوقات محددة، حيث استطاع أن يحقق هيمنة واضحة، ومع ذلك، سرعان ما تراجع نفوذه نتيجة الفتن التي أشعلها تشدد بعض أتباعه من العامة، واللجوء إلى العنف للتعبير عن توجهاتهم، مما أدى إلى تقلص أعداد المقلدين وانحسار شعبيته.

من مخطوطات مسند أحمد بن حنبل
من مخطوطات مسند أحمد بن حنبل

تشير مصادر تاريخية إلى أن تشدد الحنابلة في الالتزام بالفروع الفقهية كان من أبرز أسباب الفتن التي شهدتها تلك الحقبة، وهذا التشدّد لم يمر دون رد فعل، فقد واجههم الأمراء والشافعية بحزم، وتروي لنا المصادر التاريخية، ومنها “الكامل في التاريخ” للمؤرخ “ابن الأثير” [1160م – 1233م]، واقعة فتنة شهيرة وقعت في عام 323هـ /935م، ومفادها أن نفوذ الحنابلة تصاعد وأصبحوا قوة مؤثرة في بغداد، وبدأوا يتصرفون بطريقة صارمة ومتعسفة، فكانوا يهاجمون بيوت الناس وإذا وجدوا فيها نبيذًا (مشروبًا كحوليًا) يسكبونه، وإذا وجدوا مغنية، ضربوها وحطموا آلات الغنا، كما تدخلوا في أمور البيع والشراء، وفرضوا رقابة على الناس، وقام الحنابلة بالتدخل في حياة الناس كانوا يسألون الرجال عن النساء أو الأطفال الذين يمشون معهم في الشوارع، وإذا لم يقتنعوا بالإجابة، كانوا يضربونهم ويأخذونهم إلى الشرطة بتهمة الفاحشة. 

متبقاش حنبلي
دينار ضرب في عهد الراضي بالله في بغداد

هذا التصرف تسبب في فوضى كبيرة في بغداد، جعلت قائد الشرطة “بدر الخِرشَني”، يحاول السيطرة على الوضع، فأصدر أمرًا بمنع تجمع الحنابلة ومنعهم من النقاش في أمور مذهبهم، ولم تفيد الإجراءات الحكومية في منع الفوضى، إذ ازدادت قوة الحنابلة فكانوا يهاجموا الشافعية ويحرضون العميان ضدهم، فتدخل “الخليفة الراضي” [907م – 940م]، وهدد الحنابلة باستخدام القوة ضدهم.[7]

قبر جلال الدين السيوطي
قبر جلال الدين السيوطي

أما في مصر فإن انتشار الحنابلة لم يحدث إلا في القرن السابع الهجري / ال13م كما نص على ذلك “السيوطي” [1445م – 1505م]، في كتابه حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة[8]، ولم يحدث منهم شيء مثلما حدث في بغداد لكن بقي صيتهم مشهورًا خصوصًا مع وجودهم في الأزهر.[9]


[1]  عصام تليمة، لا تكن حنبليًّا، موقع قناة الجزيرة مباشرة، 26 أغسطس 2022م
[2]  محمد أبو زهرة، ابن حنبل .. حياته وعصره .. آراؤه وفقهه، ط/1،  دار الفكر العربي، القاهرة ـ مصر، 1946م، ص392.
[3]  ابن خلدون، العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، مراجعة: سهيل زكار، حواشي وفهرسة: خليل شحادة، ج1، ط/1، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1401هـ / 1981م، ص566.
[4]  محمد أبو زهرة، ابن حنبل .. حياته وعصره، ص393.
[5]  بن رجب الحنبلي، الذيل على طبقات الحنابلة، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، ج1، ط/1، مكتبة العبيكان، الرياض ـ السعودية، 1425هـ / 2005م، ص348.
[6]  بن قتيبة، الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، ط/1، دار الراية، عمان ـ الأردن، 1412هـ / 1991م، ص20.
[7]  بن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبدالسلام بدري، ج7، ط/1، دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، 1417هـ / 1997م، ص ص40–41.
[8]  السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ج1، ط/1، دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة ـ مصر، 1387هـ / 1967م، ص480.
[9]  عبدالله بن عبدالمحسن التركي، المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته، ج1، ط/1، مؤسسة الرسالة .. ناشرون، بيروت ـ لبنان، 1423هـ / 2002م، ص286.

الكاتب

  • متبقاش حنبلي وسيم عفيفي

    باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان