مدافن الإمام الليث.. مقابر داخل مستشفى يسكنها المؤثرون في تاريخ مصر
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
“لا روحانية ولا انقباض”…
هكذا تشعر حين تمشي في شارع مدافن الإمام الليث دون أن تتوغل فيها، وإن كان شارع الأشراف بمنطقة السيدة نفيسة هو بقيع مصر، فمدافن الإمام الليث هي جزء كبير من مستودع شخصيات رسمت التاريخ الحديث لمصر، لكن بإدراك ذلك عليك التجول، فالروحانية تقبع في آخرها حيث رفات رموز صوفية ودينية كبيرة في التاريخ، بالإضافة لشخصيات مصرية حديثة رسمت التاريخ المعاصر الآن.
أسوأ ما في سيرة مقابر الإمام الليث
هل هو استسهال أم عدم البحث الجيد أوقع الغالبية في خطأ تسميتهم للمنطقة، فالمشهور لدى العامة والإعلام أن اسم المدافن هي “الإمام الليثي”، لكن التاريخ يقول “الإمام الليث” نسبة للفقيه الليث بن سعد والذي لا يبعد قليلاً عن مسجد الإمام الشافعي.
خطأ التسمية ليس شنيعاً مثل شناعة تناول الإعلام لهذه المقابر، اكتب في يوتيوب مثلاً ولن تجد إلا فيديوهات تسعى لـ “الزيارات” من خلال حوارات مع “التُرَبَيَّة” الذين يتكلمون عن ميت اكتشفوا أنه حي، أو عن متوفي كانت وضعيته في اللحد مريبة، ناهيك عن حكايات أسطورية.
الإيجابية الوحيدة في تناول الإعلام لسيرة مدافن الإمام الليث هو الكشف عن معاناة جيران الأموات الذين يسكنون المقابر، أو مافيا الضياع التي تتحكم في مزاج عاشقي المخدرات والدعارة، الأمر الذي جعل الحكومة تهمل هذا الملف على المستوى الإداري، فظهرت مشكلة الصرف الصحي التي تسببت في إزالة مقابر متعددة.
خمس مقابر لشخصية تاريخية داخل مستشفى
في منتصف شارع مدافن الإمام الليث يظهر أمامك مبنى أكبر آلاف المرات من اللافتة التي عليه، ويختلط عليك الأمر كثيراً حين ترى هذا المبنى، هل هو فرن عيش مهجور، أم أنه مستودع أنابيب بُنِي على المقابر، أم أنه أطلال أثر تاريخي صار خرابة.
تدقق أكثر في هذه اللافتة لكتشف أنه مستشفى لخدمة أهالي المنطقة، ولا تتوفر الإمكانيات المعروفة في المستشفيات داخل هذا المستشفى، فبالكاد يمكن أن يوجد فيها قياس سكر، وإنجاز كبير لو توفرت إمكانيات عملية ولادة للحوامل، تتجول في المستشفى لتكتشف أنه في الأصل وحدة صحية خيرية بناها محمد توفيق باشا نسيم.
أخذ محمد نسيم باشا شهرة كبيرة في التاريخ الحديث باعتباره رئيس الوزراء الأسبق في عهد الملك فؤاد والمشهور بتحسين إدارة الأوقاف الأهلية وأوقاف الحرمين الشريفين، والمؤسس لوزارة التجارة والصناعة، فضلاً عن قراره بإلغاء دستور 1930 م الذي سبب أزمة سياسية في مصر وإعادته لدستور 1923 م.
تحتوي الوحدة الصحية التي أسسها نسيم باشا على رفاته حيث شُيَّد قبر مبني على طراز الأسرة العلوية الحاكمة لمصر، بالإضافة لـ 4 مقابر أخرى لأقاربه من بقية عائلته.
اختلفوا في حياتهم ثم اجتمعوا بمقابرهم
دُفِنت شخصيات مصرية مشهورة في التاريخ الحديث، في مفارقة لم تحدث في حياتهم أن يتجمعوا أو يتحملوا بعضهم، وتجد مقابرهم أمام رصيف قبر الشيخ وكيع الذي قال عنه الإمام الشافعي “شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي ** وقال إن العلم نور ونور الله لا يُهْدَى لعاصي”.
تجد مبنى قبر رئيس مجلس النظار مصطفى باشا رياض، وبجانبه مبنى لقبر الشاعر الثائر محمود سامي البارودي في آنٍ واحد، وربما القدر جمع الغريمين، فالشاعر كان من المناصرين لثورة أحمد عرابي، وتولى منصب وزارة الحربية ثم انتهى أمره بالنفي ولم يعد إلى مصر إلا كفيفاً قبل وفاته بأعوام.
أما رياض باشا، فهو الذي أوصل محمود سامي البارودي لهذا المصير، فقد كانت حكومة رياض إحدى الذرائع التي قامت من أجلها الثورة العرابية، ولما تولى منصب وزارة الداخلية في حكومة شريف باشا كان أول قرار يأخذه هو تغليظ العقوبة على كل من ساهم في الثورة العرابية.
لم يكن رياض باشا هو وحده المدفون هناك باعتباره رئيساً للحكومة ووزيراً للداخلية، فعلى نفس الرصيف يقع مبنى قبر محمد محمود باشا والذي شكّل وزارته الأولى سنة 1928 م، وتقلد فيها منصب وزير الداخلية ليمارس سياسة شديدة عُرِفَت في التاريخ باسم “وزارة القبضة الحديدية”.
علية القوم من الوزراء التاريخيين يرقدون في مدافن الإمام الليث، فتجد مبنى لعائلة أبو علم، وعلى رأسهم محمد صبري أبو علم، وزير العدل سنة 1942 م والذي أصدر قانون استقلال القضاء في 10 يوليو 1943 وعمل على تأسيس نادي القضاة بمنح حكومة الوفد لرجال القضاء قطعة أرض مساحتها حوالي ألفي متر مربع وعشرة آلاف جنيه لنادي القضاة.
الهادئون بلا صخب لكن إنجازاتهم تتحدث عنهم يرقدون أيضاً هناك داخل مدافن الإمام الليث ، فجعفر باشا والي أول رئيس لاتحاد كرة القدم المصري، ووزير الأوقاف سنة 1928 م في حكومة محمد محمود باشا، يرقد بجانب أهم شخصية علمية في مصر خلال القرن التاسع عشر وهو محمود باشا الفلكي.
ربما كان محمود باشا الفلكي هو الأقدم تاريخياً حيث إنه من زمن ما قبل حكم الخديو إسماعيل، ورغم صلاته بالقصر، لكنه دخل التاريخ كرائد علم الفلك الأثري والمؤسس الأول لمعرفة الكسوف والخسوف في مصر.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال