
“مسلسل النص” تاريخ رايق في حلقتين

-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تصاغ أحداث مسلسل النص من وحي التاريخ، لكنه راعى تفاصيل تاريخية على مدار حلقتين، منها ما يخص الديكورات، ومنها ما يخص المصطلحات مثل ممنون وياحبذا، إلى جانب أشياء اجتماعية في التاريخ المصري عبر الفترة التي تدور بها الأحداث.
مجتمع التروماي وعمل عبدالعزيز فيه

من المشاهد التي كانت لافتةً في مسلسل النص، كانت ما يخص التروماي وربط “النشل” به، تبدو تلك المسألة أمرًا هامشيًا، إلا أنها تعود بنا إلى العام 1910م (بعد تأسيس الترام في القاهرة بـ14 سنة) عندما ذكرت جريدة اللواء في عدد 2 أكتوبر أن عدد النشالين الذين يحتكون بركاب الترام ويسلبون النقود والساعات قد شهد تزايدًا ملحوظًا، إذ كثرت الشكاوى من الجمهور من ضياع أشياء سرقت منهم أثناء ركوب الترام، ليتضح أن هناك نشالين يتعلقون من جهة اليسار بحجة اللعب أو الركوب حتى إذا صادفوا أحد الركاب سلبوا منه ما تصل يديهم له.
عمل عبدالعزيز النص في الترام، أتاح لصُنَّاع العمل فرصة إظهار ملامح القاهرة التي شقَّتها قضبان الترام، مُجسِّدين بذلك نبض المدينة في ذلك الزمن.

لم يكن ظهور عبدالعزيز النص ككمساري في المسلسل مصادفة؛ فقد كان عبدالعزيز في شبابه كمساري بالفعل، وهو ما تؤكده مذكراته التي حققها الباحث أيمن عثمان.

وُلِد عبدالعزيز وحيدًا لأب مُدلِّل، لم يعرف القسوة يومًا، حتى حين كان يهرب من المدرسة، لم يكن والده يعاتبه أو يضربه، بل كان يتركه وشأنه، وفي خضم هذه الحرية، التقى بشاب يُدعى محمود دقدق، نشَّال بارع، فتعلَّم منه المهنة وأتقنها، لا لحاجته، بل لأنها كانت غوايته، وقد زادت مهارته عندما التقى بالمعلم تهامي، وحين توفي والده وترك له مالًا وفيرًا، لم يستثمره، بل أنفقه ببذخ حتى نفد، فقرر أن يعود إلى ما أتقنه: النشل.
غير أن عبدالعزيز لم يكن لصًا عاديًا، فقد استغل أموال النشل في تأسيس مقهًى بميدان الحسين، ثم افتتح دكانًا للحلويات والألعاب بشارع محمد علي، ليتوسع لاحقًا ويفتتح محل “ألف صنف” للخردوات. وبعد زواجه، كشف أهل زوجته عن ماضيه، فقرر التوبة وترك النشل.
اقرأ أيضًا
“برومو مسلسل النص” كيف يحفزنا الديكور والإنتاج على اكتشاف تاريخ مجهول؟
لكن الحياة لم تسر كما أراد، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ارتفعت الأسعار، وخسر عبدالعزيز تجارته، وتراكمت عليه الديون حتى حجز مالك العقار على دكانه وبضاعته. في النهاية، بيع كل شيء مقابل عشرين جنيهًا لم يحصل منها على شيء، فبحث عن عمل حتى أصبح كمساري في مصلحة الترام، مستفيدًا من واسطة مكّنته من البقاء في وظيفته ثماني سنوات. غير أن خصومات الراتب المتكررة دفعته للسأم، حتى فُصل بسبب مشاركته في إضراب، وما إن حصل على مستحقاته ومكافأة نهاية الخدمة، حتى أنفقها على المقاهي، قبل أن يجد نفسه يعود إلى ما بدأ به طريقه: النشل، وتفاصيل الواسطة والرجوع موجودة في مذكرات نشال بتحقيق أيمن عثمان.
مجتمع النشالين

من أمتع المشاهد في الحلقة الأولى من مسلسل “النُّصْ”، مشهد عزاء “المعلم يحيى القُرْص”، أسطى “عبدالعزيز النُّصْ”، حيث اجتمع النشالون جنبًا إلى جنب مع المخبرين في مشهد يحمل طابعًا كوميديًا خالصًا، لكنه في الوقت ذاته ألقى الضوء على ملامح “مجتمع النشالين”، بلغتهم الخاصة وطريقتهم المتفردة في العيش. وقد تجسَّدت في هذا المشهد صورة حقيقية من التاريخ الحديث، إذ كان لبعض النشالين بالفعل أساتذة يُعلِّمونهم أصول “الصنعة”.
ورغم أن شخصية “يحيى القُرْص” من بنات أفكار المؤلف، فإن المشهد نفسه مستلهم من وقائع حقيقية. فالشخصيات الحقيقية في هذا المشهد “عزيزة” وابنها “زقزوق”، وزوجها “المعلم تهامي”، الذي فارق الحياة نتيجة إفراطه في شرب الخمر المغشوش، وبعد وفاته، ساعدهم “عبدالعزيز النُّصْ” في العثور على مسكن، ثم عمل معه “زقزوق” في النشل، وفق ما ورد في مذكراته التي حققها الباحث “أيمن عثمان”.
لم يكن “مجتمع النشالين” مجرد مجموعة عشوائية من اللصوص، بل كان لهم مصطلحاتهم الخاصة وأساليبهم الدقيقة، وهو ما وثَّقته مجلة “الدنيا المصورة” في عددها الصادر في 29 مايو 1929م، وأعاد “أيمن عثمان” نشره في تحقيقه لمذكرات “عبدالعزيز النُّصْ”. ومن بين أساليب تدريب النشالين، كان يتم تعليمهم خفة اليد عن طريق التقاط قطعة ورقية طافية على سطح الماء دون أن تتبلل أصابعهم. أما إتقان قطع الجيوب، فكان يُدرَّب عليه المبتدئون باستخدام “أمواس الحلاقة”، بتمريرها على ورق ممدود على سطح الماء وقطعه دون أن يتحرك الورق، وبعد هذه التمارين الأولية، يأتي “التدريب العملي” في الأماكن العامة، مثل “الترام، والمستشفيات، وشبابيك التذاكر في دور السينما”، حيث يُختبر النشال في بيئة حقيقية قبل أن يصبح “محترفًا”.
التاريخ في معلومة
ومن ألطف ما يتسم به المسلسل تقديمه معلومات تاريخية حقيقية قبل تتر النهاية وحدث هذا في الحلقتين الأولى والثانية ومن المتوقع في بقية الحلقات، وهي منتقاة من جهد بحثي وأرشيفي قام به أيمن عثمان، إلى جانب تمرير أشياء تاريخية تستحق البحث من الجمهور، مثل مشهد أداء درويش (حمزة العيلي)، لمونولوج من مسرحية ريتشارد الثالث لشكسبير
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما هو انطباعك؟







