ملف السرقات الموسيقية .. الجزء الأول : الموسيقار محمد عبد الوهاب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يعتبر ملف السرقات أو الاقتباسات الموسيقية أحد الملفات الهامة التي قتلت بحثًا، هذا النوع من الملفات يستقطب الجمهور على كافة أشكاله كالأخبار الفنية المثيرة للجدل، أغلب المنشور عن السرقات الفنية يختلط بها الحابل بالنابل بعضها يوجه السرقة نحو شخص واحد فقط غالبًا ما يكون الملحن وقد لا يكون هو المسئول الأول عن السرقة أو الأقتباس هذا بفرض وجودها من الأساس في خلط واضح بين عمل الملحن والموزع الموسيقي المسئول عن الإخراج النهائي للأغنية، وبالطبع لم يتطرق أحد إلى أسس فنية موضوعية يقوم فيها بتفنيد وتحليل السرقة بشكل يضع الأمور في نصابها الصحيح هو فقط يذكر أن هذه الاغنية مسروقة من تلك الأغنية ويترك الجمهور ينتقي ما يروق له أما أن يطعن في مسيرة فنان أو ينبري للدفاع عنه.
هناك أسماء شهيرة يأتي ذكرها مرارًا وتكرارًا في موضوع السرقات والاقتباسات لكن النصيب الأكبر يخص الموسيقار محمد عبد الوهاب لذا سنخصص الجزء الأول من التقرير للحديث عن أشهر تلك الإقتباسات وبشكل تصاعدي على حسب مقدار حجم السرقة أو الأقتباس وهل يمكن استبعاد بعضها؟ وهل الاستلهام الفني مشروع أم يتساوى مع السرقة؟
حركات بايخة.
مع عبد الوهاب تختلط معايير ضبط السرقة ما بين استلهام جمل موسيقية و ما بين سرقات واضحة وقد يضعها البعض في سلة واحدة مع تجاهل اضافات عبد الوهاب الواضحة جدًا على تلك الجمل وبناء شكل مختلف تمامًا عن الأغنية الأصلية.
في لقائه مع المذيعة ليلى رستم أوضح عبد الوهاب أن الفنان لا يجب أن يظل حبيس أفكاره فقط وإلا لن يتطور وأنه مستمع جيد إلى الموسيقى الغربية، وفي لقاء أخر معها تحدث عن شخصية الجملة الموسيقية المقتبسة ومدى تأثيرها داخل العمل ككل، فقد تكون بسيطة أقل من أربع موازير “الحد الأقصى المسموح به في الاقتباس قانونًا” ومع ذلك تطغى على العمل كله، وإن هناك فارقًا بين النقل حرفيًا كما يفعل المترجم وما بين الاقتباس وإدخال روح جديدة على العمل كالطفل الذي يرث بعض الصفات الشكلية من والده لكن يتمتع بشخصية مختلفة عنه، ثم انهى الجدل واصفًا ما فعله بـ “الحركة البايخة” لانه لم يذكر العمل الأصلي الذي اقتبس منه.
“يا قلبي يا خالي”
لا يمكن وصف ما فعله عبد الوهاب صحبة الموزع على إسماعيل سوى استلهام روح موسيقى الـ R&B مع إيقاع السوينج في مقدمة أغنية “يا قلبي يا خالي” ومع ذلك يصر البعض على انها مسروقة من أغنية Hit The Road Jack للمطرب راي تشارلز.
المقدمة مختلفة في النسختين حيث يبدأ الغناء سريعًا في أغنية تشارلز عكس أغنية عبد الحليم التي تبدأ بصولو من البيانو يعزف جملة لحنية غير موجودة في الأغنية الأولى.
لم يتعدى الأمر سوى أربع ثوان فقط “كوردات وإيقاعات” حتى ظهرت شخصية عبد الوهاب الملحن ولن تجد أي تشابه بين اللحن وبين أغنية تشارلز سوى أنهما من نفس المقام الموسيقي فقط، ولو عدنا بالذاكرة إلي أوائل الخمسينات سنجد أن على اسماعيل له تجربة مع عبد الحليم في بعض الأغنيات التي استخدم فيها موسيقى الجاز والبلوز بالإضافة إلي استخدام اسماعيل الدائم للأوركسترا الغربي في توزيعاته، الأمر يشبه تمامًا كمن استخدم إيقاع الريجي فقام اخر باتهامه بسرقته من بوب مارلي.
والأهم من كل ذلك ان هناك مفاجأة لم يلتفت إليها البعض وهي أن أغنية راي تشارلز صدرت عام 1961 وفازت بجائزة جرامي عن نفس السنة واحتلت المركز الـ 387 في قائمة مجلة الرولينج ستون لأهم 400 أغنية في تقرير صدر عام 2004، في حين أن أغنية يا قلبي يا خالي كانت ضمن فيلم “بنات اليوم” من إنتاج 1957، إذن هل يجرؤ أحد على اتهام راي تشارلز بسرقة عبد الوهاب وعلى إسماعيل، أم سنتوجه إلي الرولينج ستون أعرق مجلات الموسيقي في العالم وتتهمها بتزوير تاريخ أغنية راي تشارلز، أم نكذب أعيننا أمام غلاف الأسطوانة الاصلية للأغنية التي تشير أنها سجلت وصدرت في عام 1961 ولو افترضنا جدلًا ان للأغنية اصدار قديم فلماذا لم يشير أحد إليه مع العلم بأن الأغنية لها أكثر من 160 استعادة (Cover) لكن بعد ظهورها على يد تشارلز.
“سجى الليل”
يعتبر أوبريت قيس وليلى من فيلم يوم سعيد أول أوبريت غنائي في تاريخ السينما المصرية، حيث غنى عبد الوهاب رائعته مع شوقي “سجى الليل” والتي يشار إلي اقتباس مقدمتها من مارش العبيد للمؤلف الروسي تشايكوفسكي.
هذا الاقتباس يحيلنا إلى ما قاله عبد الوهاب في اللقاء التليفزيوني، جملة بسيطة لم تتعدى مازورتين فقط لكن تطغى شخصيتها على المقدمة بأكملها نفس الجملة التي تقولها الوتريات هي نفس الجملة التي نفذها عبد الوهاب صحبة الموزع عزيز صادق باّلة الأوبوا مع تغيير الإيقاع.
تلك الجملة البسيطة وضع عليها عبد الوهاب لمساته الخاصة في لحن ابتعد تمامًا عن بقية مارش تشايكوفسكي، ووقتها كان عبد الوهاب في منافسة شديدة على تطوير شكل المونولوج العاطفي التعبيري مع القصبجي فظهر هذا في جمل اللحن التي عبرت عن الوحدة بجمل شرقية المذاق على مقام النكريز مع نقلة بسيطة إلى مقام الراست.
المسألة ببساطة هي تطويع المقدمة التي ناسبت الأجواء الصحراوية الليلية التي تتناسب مع مفردات القصيدة وفي نفس الوقت مع لحن شرقي إذن نحن أمام بناء موسيقي شاهق جدًا من عبد الوهاب الذي لم يستعمل سوى مازورة ونصف فقط من مارش تشايكوفسكي.
المفاجأة أن تشايكوفسكي نفسه استوحى المارش نفسه من موسيقى شعبية صربية Sunce jarko ne sijaš jednako”” لأنه صنع المارش احتفالًا بالجنود الصرب العائدين من القتال ضد الامبراطورية العثمانية.
“جفنه علم الغزل”
نتوغل أكثر نحو اقتباسات عبد الوهاب لنصل إلى محطة “جفنه علم الغزل” التي أخذها من أغنية El Manisero للمطرب الكوبي Antonio Machín.
اللحن متطابق إلى حد كبير على نفس المقام العجم تظهر بوضوح في الجملة المحورية “كيف يشكو من الظما من له هذه العيون” مع سيطرة شبه كاملة للإيقاع على القصيدة، مع احتفاظ عبد الوهاب بروح شرقية في الأداء، لكنها تبقى في النهاية اقتباس واضح جدًا.
تكمن أهمية “جفنه علم الغزل” في أن عبد الوهاب ادخل إيقاع الرومبا لأول مرة على الأغنية المصرية واستخدم اّلة الماركاس الإيقاعية بل وعزفها بنفسه ، وبنى جسورًا للتواصل مع الموسيقى الغربية أو كما قال الملحن حليم الرومي في مذكراته ” حطّم جميع الأقوال من أن الموسيقى العربية غير قابلة للتطوير والعلمنة، ولا يزال العالم حتى اليوم يسير على خطى عبد الوهاب، في تطويع الأصوات والمجموعات الغنائية وآلات الموسيقى الغربية لصالح الموسيقى العربية”
“يا مسافر وحدك”
أشهر اقتباسات “سرقات” عبد الوهاب على الإطلاق حيث نقل لحن أغنية Poso Lypamai للمطربة اليونانية صوفيا فيمبو.
ادخل عبد الوهاب بعض التغييرات حيث استبعد إيقاع الفالس المستخدم في الأغنية اليونانية واستخدم إيقاع Paso Doble بدلًا منه لكنها تبقى اقتباس واضح جدًا من عبد الوهاب الذي أخذ جمل اللحن اليوناني على مقام المانير “النهاوند” مع عربة بياتي في قفلة مقطع “ودعني من غير ما يسلم وكفاية قلبي أنا مسلم” ثم اضاف لحنًا جديدًا على مقام البياتي الشرقي بداية من مقطع “على نار الشوق”.
الغريب أن هناك جملة في الأغنية تتشابه مع جملة من أغنية فريد الأطرش “عشك يا بلبل” في مقطع “وليفك يدادي وانت تهادي” التي يقابلها “دي عنايا دموعها” لكن المفاجأة في تشابه جملة “غرد يا بلبل على غصنك” من عبد الوهاب نفسه في مقطع ” لما سلمتى عليا و خدت ايدك في ايديا” من أغنية “إيه انكتب لي يا روحي معاكي”.
في النهاية كان هناك تعمد للحديث عن أربعة أغنيات فقط تدرجت فيها الاقتباسات أو السرقات ما بين نقل بعض الجمل او استلهام اخرى أو مجرد تأثر بسيط دون نقل كامل وعليه يمكن أن نقيس بقية الأغاني التي أشير إلي عبد الوهاب في سرقتها مثل “القمح الليلة – لا مش أنا اللي أبكي –أحب عيشة الحرية”
بحبك وخايف تامر عاشور بداية مبشرة لعام ساخن غنائيًا.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال