من أمام المزبلة
كنت أهمّ بارتداء المريول الخاصّ بالرّسم، لأكمل لوحتي بعد استراحة قصيرة في الشّرفة الخلفية للبيت المقابلة للمزبلة ((الحديقة سابقاً))، عندما رأيت يدين صغيرتين تحاولان تسلّق الحائط، ليظهر بعدها صاحبهما الصّغير
معتلياً السّور،
مبتسماً ابتسامةً حرجةً،
مكشّراً فيها عن أنيابه…!!!
كان أحد أولئك الصّبية الشياطين الّذين يقطنون الزّقاق الّذي أسكن فيه ((زقاق بنات في منطقة صبرا)) ….
عندما رآني، وقف ((منتصب القامة يمشي)) على حافة السّور، حتى وصل إلى المزبلة، ليقفز إليها كمن يقفز في حوض سباحة، ثم أخذ ينادي على رفاقه من خلف الحائط، فتبعوه واحداً تلو الآخر!!
كنت أتامّل هذا المشهد وأفكّر ببراءة:
ما الطّينة الّتي جُبِلَ منها هؤلاء الأطفال؟؟؟!!
لماذا لا يمرضون برغم برونزاجهم اليومي بالمزابل؟؟!!
هل ما يذكر عن الأوبئة والأمراض في كتب العلوم خرافة؟؟؟
سبحان الله!
لي خالةٌ تقطن في الجبل منذ فترة طويلة، رغم أنها بيروتيّة الأصل، إلا أنها أصبحت ((بنت ضيعة))، إلى درجة أنّه لو عادت أمّي من ليبيا ورأت أختها تطعم الدّجاج وتسقي الزّرع وتقطف الهندباء والزَّيتون… لأنكرتها ثلاثا قبل صياح الدّيك!! ..
خالتي هذه تأخّرت في الإنجاب إلى ما يربو عن 15 سنة زواج، لم تدع فيها إماماً، ولا قدّيساً، ولا ملاكاً، ولا حتّى إبليساًًً أو شيطاناً، إلا ونذرت له لكي يمنَّ عليها الرَّحمن بالاطفال …
وهذا ما كان في نهاية الأمر…
أنجبت ابنها الأوَّل ((مودي))،
فاستقبل بقرع الطّبول وأصوات الزَّغاريد الّتي تتراقص فيها الألسن كذيل الأبو بريص… ثم بعده بسنتين، أنجبت ابنتها هبه ، والتي اقام زوج خالتي عقب مولدها مذبحةٍ بحقّ الخراف والدَّجاج وباقي الكائنات الحيَّة في مزرعته
مجيء هذين الطّفلين لخالتي بعد كلّ هذه السّنين الطّويلة من الانتظار، جعلها خالتي مهووسةً بشكلٍ عصابيّ بصحة اطفالها …
فكانت تشعر بعقدة المؤامرة من كلّ العناصر والمؤثّرات الخارجيّة الّتي من الممكن أن تقتصّ من صحّتهما، كالبرد والحرّ والتلوّث، و….و……..و …….. إلخ
في كلّ مرّةٍ كنت أزور فيها خالتي وأحمل أحد طفليها لأقبّله، كنت أشعر بأنّي أقبّل قنينة ديتول أو معقّماً طبّيّاً، بسبب عصاب خالتي المجنون بتعقيمهم!!!
الغريب العجيب هنا، أنَّه وبرغم كلِّ هذه النَّظافة والعناية الهستيريَّة من قبل خالتي بولديها، إلا أنَّهما يمرضان أكثر من المعتاد.. فيما أولاد الـ(( …… )) الّذين يسبحون ويرتعون أمامي يومياً في المزبلة، أصحّاء معافون، وكأنّهم تطوّروا جينيّاً حتّى اكتسبوا مناعةً جبّارةً تقف حائلاً دون وصول أيّ ميكروبٍ إلى أجسامهم!!
سبحان الله!!
لا أدري لماذا لاح ببالي تشارلز داروين بنظريّته الشّهيرة حول نشوء الأجناس وتطوّرها؛ هل كان لتشارلز داروين أولاد جيران يتقافزون على المزابل حتّى استوحى منهم أنَّ هناك رابطاً وثيقاً بين الإنسان والقردة؟؟؟
الأمر فعلاً يحتاج إلى تأمّل!!
ربما كان تشارلز داروين على شيء من الصواب في نظريته
فمعيشتي في لبنان بظلّ ظروفه السياسيّة والاقتصاديّة الخانقة جعلتني ، اكتشف رابطا اخرا للانسان وهو مع الحمار،
وخصوصاً أنَّ المواطن اللّبنانيّ في العادة خامل وبليد في المطالبة بحقوقه الأساسيّة، لكنّه ينشط وينهق ببلاهة الحمار خلف أوَّل نائبٍ أو سياسيّ يمتصّ دمه،
ويصادر رغيفه وماءه،
ويعمل على تخديره مذهبيّاً وطائفيّاً…
صدِّقوني، لو كان تشارلز داروين لبنانيّاً، لعدَّل كثيراً من نظريَّته … !!!
ما علينا..
أعود إلى أولاد المزابل الّذين عرفت منهم الصّبيّ((ربيع)) ابن سعيد ((الكهربجي))، الّذي نصب عليّ عندما سلّمته رقبة سيّارتي ليغيّر لها بعض التّوصيلات…
((ربيع المزابل)) هذا، أو مريع ((كما أحبُّ أن أناديه))، هو صبيّ مقرف ومشروع ((أزعر مثالي في المستقبل))، يبدأ يومه بالصّراخ وينهيه بالصّراخ.. صراخه الصّباحيّ يكون على أمّه الّتي تجرّه من أذنه إلى المدرسة، أمّا المسائيّ، فيكون مع جوقة المدح الّتي تصرّ عائلته على استضافتهم كلَّ يوم خميس، كعادة الأحباش في الحيّ، فيبدؤون بمدح النبيّ (عليه السّلام) على قرع الطّبول، ابتداءً من التاسعة مساءً حتى تجفّ حلوقهم، ويغادرون في منتصف اللّيل، لتقوم بعدها أمّه السّمينة الشّبيهة بـ((بفرس النهر )) بإلقاء كيس زبالتها في الحديقة )المزبلة ( توفيرا للمال (باعتبارها أنّ الزبّال شخص حقير نصّاب لا داعي له ) وللجهد، حتَّى لا تذهب إلى آخر الشَّارع، وتفقد بعض الكيلوغرامات من وزنها…
كان ربيع يقفز أمام عينيّ، ممسكاً بعلمٍ متَّسخٍ، وكان يصرخ على رفاقه، ولكنّه لم يلبث أن خفض صوته عندما زجرته بنظرةٍ ناريَّةٍ…
كان يخاف منّي كثيراً، لأنّي في إحدى المرّات، ضبطته وهو يخبّئ نرجيلةً خلف خزّان الماء الخاصّ بي، وقتها، تضرّع إليّ كثيرا كي لا أخبر أمّه،واخذ يقبل يدي (( حتى اهترو شفاتيرو)) راجيا مني ان اتكتم على الموضوع وعندما رفضت – قبّلني اللعين في خدّي قبلةً بقيت على إثرها أيّاماً ((قرفاناً من خدّي الّذي تلقّاها))… فعندها سامحته حتى لا يعيدها …(( قِبلَتِه طبعا – وليس تخباية الارغيله ))