1٬637 مشاهدة
نجيب الريحاني : الفن أعظم من رجل عظيم .. قصة غضبه من سعد زغلول
فاقدة هي للأمل في إقناع نجلها بترك مهنة التمثيل، تراها وصمة عار ستصاحبه طيلة حياته، وعاجز هو عن إقناعها بأهمية مهنته، وأن الفن رسالة عظيمة، صراع ظل ما بين الفنان “النجيب” وأمه، حتى تدخل رُكاب عربة مترو مصر الجديدة وقدموا له الهدية الأغلى بحياته،على حد وصفه.
تركب الأم عربة المترو عائدة إلى منزلها في مصر الجديدة، بينما “النجيب” في بيته المقدس “المسرح” يستعد لعرض على خشبة تياترو الأجيبسيان، يجذبها حديث عدد من الركاب حول الشأن الفني والتمثيل، تستمع لكلماتهم بشغف، ويجذبه هو حديث الشخصيات بالنص المسرحي الذي بين يديه، فيتلوه شغفًا وكأنه اللقاء الأول بينهما.
تخترق أُذنيها جملة مدح كانت من نصيب “النجيب”، فتتنفس الصعداء وتقف وسط المسرح وتقول: “الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني، أنا والدة نجيب الريحاني الممثل”، بينما هو في عزلته داخل الكالوس، يأخذ نفسًا عميقًا حتى يتم فتح الستار لينطلق على خشبة المسرح.
تذهب الأم، مساء اليوم نفسه، إلي المسرح لمشاهدة نجلها، فيفهم أن وصمة العار أصبحت سببًا للفخر، ويصير هذا اليوم هو الأسعد في حياته.
لم تكن والدة الفنان نجيب الريحاني الوحيدة التي استطاع أن يُغير وجهة نظرها في التمثيل، فكان رجل السياسة الزعيم سعد زغلول لا يحب التمثيل، بل ويسميه “التشخيص”، لكن أداء نجيب أجبره أن يصفق له خلال مشاهدته على “تياترو الإيجيبسيان”، حيث كان من بين فصول الرواية إشادة بأثر الأمهات الصالحات في رفع شأن الأمة، الأمر الذي أسعده.
عندما قيل لنجيب أنه عليه الذهاب لمصافحة سعد زغلول، اعتذر بأنه لا يستطيع مقابلته بملابس التمثيل، وطلب من صديقه بديع خيري أن ينوب عنه، ويؤكد بديع أنه كان يرفض أن يذهب لمقابلة الشخصيات الكبيرة التي تتردد على المسرح تقديرًا منه للفن وليس كبرًا.
بخصوص هذا الأمر ذكر نجيب لبديع: الفن لا يجوز أن ينتقل إلى أعظم عظيم، ولكن الرجل العظيم هو الذي ينتقل إلى الفن، لأنه أعظم، لا أقول هذا كبرًا فأنت تعرف أنني لا أنتقل إلى أحد لأحييه، لأنه جاء يشاهد الفن.
الشيخ بحر والأستاذ عزيز
قد يظن البعض أن الريحاني الرجل الذي ارتبط اسمه بالضحك والكوميديا، كان يرغب أن يكون كوميديان لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا فالريحاني في بدايته كان يعشق الدراما، وورد خلال مذكراته: لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي، بل كانت كل هوايتي منصبة على “الدرام” وحده، وكم كنت أستظهر قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولُزوميات أبي العلاء المعري، ثم أخلو بنفسي في المنزل، وهات يا إلقاء، وخذ يا تمثيل.
ويعد “الشيخ بحر” أستاذ نجيب الريحاني بمدرسة الفرير، المكتشف الأول لموهبته الفنية، حيث أثنى كثيرًا على إلقائه للنصوص الأدبية، وأشاد بنبراته التمثيلية وبصوته القوي، وكانت المدرسة تكلف طلابها بتمثيل بعض الروايات على مسرحها، وكان نجيب يشارك بمعظم الأعمال ويحصل على أدوار كبيرة.
عامان من التمثيل مع نجيب الريحاني
التقى الريحاني خلال عمله بالبنك الزراعي بالقاهرة، بالفنان عزيز عيد، حيث كان يعمل بنفس البنك، وعملا كومبارس ببعض الفرق، حتى استقال عزيز عيد عام 1908 وكون فرقة تمثيلية قدمت روايات مترجمة عن الفرنسية، وأُسند خلالها لنجيب أدوار ثانوية صغيرة، لينشغل بالتمثيل عن وظيفته، ويُفصل، ويتخذ من قهوة الفن أمام تياترو “فرح إسكندر” مجلسًا له، ليقابل أمين عطا الله ويعرض عليه العمل بفرقته بالإسكندرية مقابل 4 جنيهات شهريًا، حتى يتم الاستغناء عنه فيعود لوظيفة جديدة بنجع حمادي عام 1910.
ممثل فاشل
يظل النجيب لفترة كبيرة بين صراع الحفاظ على الوظيفة والروتين المميت وشغف وحب التمثيل، خاصة بعد إجازة نزل فيها من نجع حمادي إلى القاهرة، وشاهد فيها فرقة “جورج أبيض” وتقدير الجمهور لهم، فغلب عليه الحنين للتمثيل، واتخذ من زملائه بمصنع السكر جمهورًا له يُفرض عليهم المشاهدة، يُقلد لهم جورج أبيض تارة، ويصرخ فيهم بجنون عُطيل أخرى، ليتم الاستغناء عنه لأسباب عديدة.
يعود نجيب للقاهرة وينضم لفرقة “جورج أبيض”، ويُسند له دور ملك النمسا في رواية صلاح الدين، وتعلن الفرقة الاستغناء عنه بعد تأديته لهذا الدور، بل وينصحوه بالابتعاد عن التمثيل لضعف موهبته، وينتقل نجيب بين فرقة وأخرى، ويعمل بفن الظل بصحبة استيفان روستي بأحد الكازينوهات ليجد قوت يومه، حتى يقرر أن ينافس الفرق المسرحية الموجودة ويكون فرقته الخاصة.
نبوءة تحققت
يصل نجع حمادي رجل أجنبي يعمل بالتنويم المغناطيسي، برفقة زوجته الفرنسية والتي تقوم بقراءة الكف، يقدمان عددًا من الحفلات، يتمنى نجيب أن تقرأ له الكف، ليعرف أكثر عن مستقبله وحياته، لكن المبلغ الذي تتقاضاه كبير بالنسبة له فيفقد الأمل، إلى أن تُقام حفلة بها مسابقة وجائزتها أن تقرأ السيدة الفرنسية لك الكف.
يبتسم نجيب، لكن الحظ يبتسم لشخص آخر، حيث فاز زميله عبد الكريم أفندي صدقي بالجائزة، ويبدو أن الحظ قرر ألا يُكمل ابتسامته مع عبد الكريم، حيث تم تكليفه بمأمورية سفر لصالح العمل، فيتنازل عن جائزته لصالح الريحاني.
يذهب للسيدة الفرنسية وتتنبأ له أن تكون حياته ضجة صاخبة، وينتقل بين الغنى والفقر ويمتلك ثروة ضخمة.
يقول نجيب الريحاني خلال مذكراته: لم أتعود في حياتي أن ألقي القول جزافًا، كما أنني لست ممن يصورون من الحبة قبة، بل ولا أميل إلى التهويل والمبالغة في الوصف، فهل تصدقني -أيها القارئ- إذا قلت لك إن هذه السيدة أخبرتني بأشياء حدثت لي في الماضي، كما لو كانت معي، وأنها قصت علي ظروفًا خاصة اجتزتها بنفس النمط الذي ذكرته؟ حقا لقد خبلت عقلي بما ألقت إلي من تاريخ حياتي الماضية.
تعود العرافة لبلادها وتترك نجيب حائرًا في بحر من الأفكار، فكيف سيصبح ثري؟! وهو موظف بسيط مرتبه لا يزيد عن 14 جنيهًا.
أعماله
شارك الريحاني بأكثر من 80 عرضًا مسرحيًا لم يتم تسجيلهم جميعًا منهم: حمار وحلاوة، حكم قراقوش، اديله جامد، ابقي قابلني، هز يا وز، حماتك تحبك، حلق حوش، وصية كشكش بك، كشكش بك في باريس، لعبة الست، الستات مايعرفوش يكذبوا، السكرتير الفني، 30 يوم في السجن.
قدم الريحاني 9 أعمال سينمائية: ياقوت، صاحب السعادة كشكش بيه، بسلامته عايز يتجوز، سي عمر، أحمر شفايف، لعبة الست، أبو حلموس، سلامة في خير، غزل البنات.
تم اقتباس أكثر من 12 عملًا فنيًا من أعمال الريحاني بينهم: كدبة أبريل والستات ما يعرفوش يكدبوا لإسماعيل يس، صاحب الجلالة و30 يوم في السجن لفريد شوقي، ولعبة الست لمحمد صبحي.
ميلاد وحب
نجيب إلياس ريحانة ولد عام 1889، بحارة درب مصطفى، بباب الشعرية، والده كان تاجرًا عراقيًا ووالدته السيدة لطيفة حملت الجنسية المصرية.
وللحب قصص وجنسيات كثيرة في حياة “النجيب”، وللريحاني زيجتان فقط أولهما الراقصة بديعة مصابني، والثانية من الألمانية “لوسي دي فرناي” وأنجب منها نجلته “جينا”.
ولأكثر من نصف قرن لم تعلن “جينا” أنها نجلة الريحاني، ثم ظهرت تطالب وزارة الثقافة بتكريم والدها، الأمر الذي أثار شكوك عديدة حول كونها نجلته، إلا أنها أكدت أنها تمتلك شهادة ميلادي وعادت لتجمع تراث أبيها وأسرتها في مصر والعراق، على حد قولها.
نجيب الراثي والمَرْثِيّ
في 24 مايو، قرر “الريحاني” أن يلعب دور “الراثي والمَرْثِيّ”، فكتب بيديه رثاءًا لنفسه وتُوفي بعدها بـ 15 يومًا: مات نجيب، مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب، مات نجيب الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق ولم يعرف إلا البحبحة في زمن البخل والشح، مات الريحاني في 60 ألف سلامة.
8 يونيو من عام 1949 تُوفي الريحاني، خلال علاجه من مرض التيفود، ولفتت ابنته جينا إلى أن رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا، أرسل إلى أمريكا وطلب شراء دواء لعلاجه ولكن دون جدوى.
المصادر:
مذكرات نجيب الريحاني
كتاب ( نجيب الريحاني .. ذكريات وأشواق) الصادر عن وزاة الثقافة
مقال لبديع خيري بجريدة مسرحنا، منقول عن مجلة المصور يونيه 1949
حوار جينا الريحاني للتلفزيون المصري، وندوة تكريم الريحاني بمكتبة الإسكندرية
الكاتب
ما هو انطباعك؟
