همتك نعدل الكفة
125   مشاهدة  

يا ولدي هذا عَمَّك فولان !

معركة المزرعة الصينية بطولة مصرية
  • كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



 كلما أخرج من جيبه سيجارة ضَحَك ..  ظل كذلك ما يقرب من النصف قرن، منذ أيام معركة المزرعة الصينية في 1973، حتى أصبحت الضحكة فارغة من أسنانها ..  كلما تذكَّر (شخَلل) صدره من القهقهة .. تلك الصفة التي لازمته حتى إن حفيده استشعر للحظة أن (جدو) يعاني آثار الشيخوخة .. لكن يا ترى ! لماذا تتملَّكه كيرزة الضحك كلما أخرج من جيبه سيجارة ليدخنها !

 

طار برج من عَقل حفيده حتى قرر أن يضع نهاية لهذه الحيرة التي جعلته يضرب أول كَف على كَف في حياته، واختار كان في المنزل خاليًا إلا منه وجده الذي جلس على كرسي فوتيه ساعة العصاري ينظر دائمًا إلى السماء فتلمع عينيه كلما صادفت طائرة حربية، ويشرد في الفراغ، ووقف قائلًا بعصبيه لا تخلو من حمق المراهقين : جدو .. إنت بتضحك ليه كل ما بتشرب سيجارة ؟!

 

نظر إليه جده في ارتعاشة بسيطة من أثر الشيخوخة أثناء الالتفاف، ودخل في أكبر كيرزة ضحك في تاريخه حتى شعر حفيده بالإحراج، فاحمرَّ وجهه وجَزَّ على أسنانه والتف ليبتعد، قائلًا : خلاص مش عايز أعرف .. وقبل أن يبتعد تمامًا مسكه جدو من معصمه بقوة لم يعهدها حفيده فيه، وقال جدو : تعالى .. اقعد هنا يا ولدي !

 

خريطة جغرافيا موقعة المزرعة الصينية
خريطة جغرافيا موقعة المزرعة الصينية

وشَرَد الجد، وتحولت ملامحه من الهزلية المعروف بها دائمًا ومحاولة إصراف الكلام كُلما اتجه لتاريخه، وتبدَّلت عينيه وكأنه جندي في انتظار ساعة الصفر لبدء الهجوم .. بينما جلس الحفيد (نُص ركبه) بجوار جدو وفي قلبه مزيج من الخوف والشَغَف معًا، حتى باغته جدو بضحكه ممزوجة بضرب الكَف على الكَف قائلًا بينه وبين نفسه : يابن اللذينَ .. يابن اللذينَ ! ، وكان كأنه يحدّث نفسه، فارتسمت علامات الحيرة على وجه الحفيد .. وبدأ جدو يطفئ نار علامات الاستفهام في رأس حفيده .. وبدأ يحكي .. وأي حكاية حكى !

 

كانت الحكاية يا ولدي في يومي 15 حتى 17 أكتوبر 1973 ..

قاطعه الحفيد :

  • في الحرب .. شوفت لها فيديوهات على يوتيوب !

ضحك (جدو) من تلك البساطة التي يتحدث بها حفيده، وفخورًا في نفس الوقت بأنه كان سببًا في أن يجلس حفيده الآن على أرض حرّة .. وقال : هي الحرب اللي سمعت عنها في البتاع بتاعكم دا ! 

 

كانت الحكاية عندما بدأنا التمركز في منطقة بالضفة الشرقية من قناة السويس، بالقرب من منطقة عُرفَت باسم المزرعة الصينية ..  والمزرعة الصينية يا ولدي هي محطة زراعة تجريبية مصرية وقعت تحت يد الاحتلال الإسرائيلي، وعندما فَتَّش جنود الاحتلال الإسرائيلي تلك المنطقة وجدوا فيها مُعدات مكتوب عليها بالأحرف اليابانية فظنوا أنها أحرف صينية فأطلقوا عليها اسم “المزرعة الصينية“، ودارت فيها أم المعارك بيننا وبينهم يا ولدي !

 

لم يلتفت “جدو” لعلامات الاندهاش التي كاد بسببها أن يسقط فك حفيده في حجره .. واستكمل قائلًا : بعد فشل تطوير الهجوم في 14 أكتوبر، رسمت إسرائيل خطة لضرب قوات شرق القناة، تحت إدارة أبراهام آدان ومعه 2 لواء مدرع، وأرائيل شارون ومعه 2 لواء مدرع ولواء مظلات ، وكالمان ماجن ومعه لواء مدرع ولواء ميكانيكي ، بمجموع 540 دبابة، و2000 جندي من قوات المظلات. وجاء هذا الجيش الجرّار ليقتلونا يا ولدي ليحتلوا بعدها مدينة الاسماعيلية ومحاصرة الجيش الثاني واحتلال مدينة السويس ومحاصرة الجيش الثالث ! .. يعني إذا نجحوا يا ولدي لم تكن ستسمع عن انتصارنا على “يوتيوب” !

المشير محمد حسين طنطاوي
المشير محمد حسين طنطاوي

وفي الكتيبة 16 مشاة، كنت جنديًا رابضًا داخل الخندق في منطقة المزرعة الصينية ، وكنّا نستشعر أنا وباقي الجنود أن الليلة – ليلة 15 أكتوبر- ليست كأي ليلة، فمصير الحرب كله سيتحدد على أيدينا في خلال ساعات قادمة .. وكان قادة الكتيبة المقدم محمد حسين طنطاوي، والفرقة 16 مشاة بقيادة اللواء عبد رب النبي حافظ .. وضحك جدو ضحكة خبيثة تحوَّلت فيها ملامحه إلى ثعلب عجوز لكنه مازال قادرًا على القتال، وقال : الإسرائليين جايين .. لكن تسمع عن لعبة الاستغماية ؟!

ضحك الحفيد من وَقع الكلمة التي جاءت عكس تيار المصطلحات شديدة الهيبة .. فاتخذّت ملامح جدو طريقها للجفاف مع الجدية، قائلًا : أيوا استغماية !

 

صدرت لنا الأوامر أن نتحايل على خطة جيش الاحتلال الإسرائيلي .. كان جيشهم وقتها لا يهجم بمُشاته إلا إذا غار عليك بالطيران بعد استطلاع تحديد موقعك قبلها بقليل كي تصبح صيدًا سهلًا للمشاة القادمين في الطريق، وكان الهجوم الأول علينا بالطيران الإسرائيلي، بعد أن استطلعوا لتحديد مواقعنا، لكن خطة “الاستغماية” قامت على أن نغير مواقعنا بعد الاستطلاع، فعندما غارت علينا الطائرات قصفت مواقع خالية من جنودها لأننا –وبحسب الأوامر- غيرنا مواقعنا بعيدًا عن القصف فلم يسقط مننا شهيد واحد ! .. وكُنّا بكامل عددنا واقفين في شكل (كمّاشة)، ومختبئين جيدًا كُل في موقعه لنحجز للإسرائليلن تذكرة في رحلة الجحيم .. رحلة سيحلم بها جيش الإحتلال وسيرويها لأحفاده .. هذا إذا خرج أحدهم سليم !

YouTube player

قائد الكتيبة 16 مشاة محمد حسين طنطاوي

 

أقشعرَّ بدن الحفيد الذي لم يكن يتخيل أن المشاعر الوطنية تسكن تحت جلده حتى لو لم تظهر في أحيانِ كثيرة .. وأرهف السمع لجده الذي استكمل : وكان أسطول الدبابات والجيش الجرار بقادته وجنوده على مرمى العين، وكانت الأوامر الصادرة لنا أن نكتم حتى النَفَس، ولا تخرج طلقة واحدة إلا بعد الإشارة الضوئية المتفق عليها، لكن إذا صدرت الإشارة لا تتوقف عن إطلاق النار إلا بعد تحقيق الهدف كاملًا .. وتعلَّقت أنظارنا جميعًا لموقع الإشارة الضوئية وكان جيش الاحتلال قد دخل بقدميه إلى الكمين في هدوء الواثق من نفسه .. وفجأة صدرت الإشارة الضوئية ..

إقرأ أيضا
هجوم حلب

 

كان الجحيم بعينيه  ..قطعة من جهنم بالقرب من المزرعة الصينية، الصواريخ هي مصدر الضوء الوحيد في الليل، كنّا نضرب دباباتهم وكأننا نصطاد الناموس والذباب، أسطول من المركبات الحربية أصبح هو والخردة سواء، وفي داخله من يعلنون استسلامهم أو يبكون كالأطفال، ومنهم الذي نادى على أمه لتنقذه من جحيم الدرك الأسفل من النار الذي أوقعته فيه قدميه وفكّر أن “دخول الحَمّام زي خروجه” ! .. وكانت القذائف فوق الرؤوس حتى تحولت المزرعة الصينية –بقدرة قادر- إلى مقبرة تضم بداخلها قطاع كبير من جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث المركبات – كما قال اللواء محمد الألفي-  كانت قد هلكت ووقف طابور على شط القنال وكأنها قطار طويل نزل عليه النيزك فأخرجه من الخدمة .. أو كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها موشي ديان عندما زار موقع معركة المزرعة الصينية : لم أرَ مشهد أفظع من هذا، ولم أقرأ عنه في التاريخ الحربي .. إنها الكارثة بأم عينها .. لم أستطع إخفاء مشاعري وأنا أشاهد نتائج معركة المزرعة الصينية عندما كنت أقترب من كل دبابة متمنيًا ألا أجد علامة الجيش الإسرائيلي عليها لكن الصدمة أن معظم الدبابات كانت تحمل علامة جيشنا الإسرائيلي !

خسائر جيش الاحتلال الإسرائيلي في معركة المزرعة الصينية
خسائر جيش الاحتلال الإسرائيلي في معركة المزرعة الصينية

وكان الحفيد قد سال لعابه ولا يريد للحديث أن يتوقف فالتقط جدو طرف الخيط قائلًا : يمكنك أن تقرأ على الموبايل (بتاعك) كتاب “التقصير”، وهو أشهر الكتب الإسرائيلية عن حرب أكتوبر، وحكي فيه المؤلف عن معركة المزرعة الصينية وما بعدها من محاول جيش الاحتلال الإسرائيلي تعويض ما حدث لهم هناك بإرسال مجموعة من المظلات لتكون المفاجأة أن لواء دبابات مصرية استطاع أن يحاصرهم، وحتى بعد عبورهم إلى الضفة الثانية واجههم الشيخ حافظ سلامة بقوات الكفاح الشعبي في السويس، ومجموعات من الشرطة المدنية، وقائد الفرقة 19 مشاة يوسف عفيفي .. وانتهت الحرب على الأرض وانتقلت للموبايل .. الآن جاء دورك يا ولدي !

 

كتاب عن حروب الجيل الرابع - نرشحه لكم للقراءة
كتاب عن حروب الجيل الرابع – نرشحه لكم للقراءة

ارتبك الحفيد بعد أن حكى له جدو عن حروب الجيل الرابع عن طريق شاشات الهواتف، وخلال الحديث انتهت السيجارة في يده وأشعل أخرى، وضحك ضحكته الشهيرة أثناء إشعال السيجارة، فعاد الحفيد لمبتدأ الكلام وقال : بس انت برده ماقولتليش .. ليه بتضحك وانت بتدخن

فقال جدو ضاحكًا :

  • أثناء المعركة .. سمعنا أن أحد الجنود من (عندنا) دخل على جندي إسرائيلي دبّابته يسأله عما إذا كان معه سيجارة أم لا !!! .. ماعرفش مين دا لكنه أكيد في مقام عمك حتى لو انت ماتعرفوش! .. ودخل الاثنين في موجة ضحك، وأصبحت تلك الابتسامة الخبيثة تربطهما كلما أشعل جدو سيجارة !

 

 

الكاتب

  • المزرعة الصينية محمد فهمي سلامة

    كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
6
أحزنني
0
أعجبني
3
أغضبني
1
هاهاها
0
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان