همتك نعدل الكفة
206   مشاهدة  

تاريخ التعليم في الأزهر الفاطمي .. لماذا نتشكك من رواية تأسيسه لنشر المذهب الشيعي ونجاحه؟

تاريخ التعليم في الأزهر
  • باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



متى بدأ تاريخ التعليم في الأزهر .. لماذا أصلاً تأسس الأزهر؟.
يبدو السؤال الثاني له الأولوية عن السؤال الأول؛ لكن إجابة الأول ليست بسهولة الثاني رغم ارتباط السؤالين ببعضهما.
فالإجابة الحاضرة لسبب تأسيس الأزهر هي :- لكي ينشر المذهب الشيعي على يد الفاطميين.
لكن تحديد تاريخ التعليم في الأزهر الفاطمي ستجد فيها لجلجة أو تأخرًا عند الناس.

لذا قام موقع الميزان بكتابةٍ تحقيق يتناول سردية تأسيس الأزهر بهدف نشر المذهب الإسماعيلي ونجاحه في ذلك؛ ويقدم قراءة جديدة لتفاصيل تاريخ التعليم في الأزهر وإن كانت مغايرة لما هو مشهور لكن لا تعني أن نتائج الاجتهاد حقيقة تاريخية مطلقة.

ملخص تحقيق الميزان قبل قراءة التفاصيل

تاريخ التعليم في الأزهر

الصورة الذهنية لسبب تأسيس الأزهر أن جوهر الصقلي دخل مصر ليجعلها حاضرة الدولة الفاطمية، ولكي يكسب شعبها والمناطق المجاورة لمصر أسسوا الأزهر كمؤسسة دينية علمية لنشر الفكر الإسماعيلي في ربوع العالم؛ لكن تلك الصورة الذهنية ليس منضبطة ويمكن تلخيص معالم عدم انضباطها في 7 عناصر :-

1) الفاطميون بدأوا في أفكارهم قبل دخولهم مصر بـ 15 سنة داخل رموز المجتمع دون عامة الشعب.
2) جوهر الصقلي أسس الأزهر كرمز من رموز العاصمة الجديدة لمصر كدولةٍ فاطمية.
3) التعليم في الأزهر جاء بعد 3 سنوات من تأسيسه وكان للفاطميين فقط وعددهم محدود.
4) المعز لدين الله لم ينشر المذهب الإسماعيلي بين عموم المصريين عن طريق الأزهر.
5) العزيز بالله الفاطمي بعد 9 سنوات من تأسيس الأزهر أعطى له مهمة نشر المذهب الإسماعيلي علميًا لكنه فشل فيها فشلاً ذريعًا بعد عامين من بدء التعليم النظامي فيه.
6) كانت هناك مؤسسات أخرى غير الأزهر لدعمه في نشر المذهب الإسماعيلي لكنها فشلت.
7) بعد فشل الأزهر جاءت دار الحكمة لتتولى مهمة بث علوم الإسماعيلية بالشكل المباشر الصريح ومن أبرز تلامذتها الحسن بن الصباح الذي تعلم فيها وليس بالأزهر.

هذه العناصر الـ 7 تبدو غريبة عما هو مشهور في الوعي الجمعي؛ ولفك غرابتها يمكنك قراءة هذا التحقيق الذي يتناول ذلك عنصرًا عنصرًا.

جذور التواجد الفاطمي في مصر قبل دخولها

حُدود الدولة الإخشيديَّة التي أزاحها الفاطميين (البُني والبُرتُقالي والبنفسجي المُظلل)
حُدود الدولة الإخشيديَّة التي أزاحها الفاطميين (البُني والبُرتُقالي والبنفسجي المُظلل)

الفاطميون لم يدخلوا مصر سنة 968م / 358هـ بغتة وأهلها غافلون عنهم، فقد كان لهم وجود بمصر من الناحيتين العسكرية والدعائية قبل ذلك التاريخ؛ فمن الناحية العسكرية حاولوا دخولها قبل ذلك التاريخ مرتين الأولى زمن المهدي الفاطمي والثانية زمن نجله القائم بأمر الله، أي قبل نصف قرن من دخول المعز لها.

خريطة توضح التحرُّكات الإسماعيليَّة في شمال أفريقيا والمناطق التي أُقيمت بها الدولة الفاطميَّة لاحقًا في إفريقية والمغرب
خريطة توضح التحرُّكات الإسماعيليَّة في شمال أفريقيا والمناطق التي أُقيمت بها الدولة الفاطميَّة لاحقًا في إفريقية والمغرب

أما الناحية الدعائية فقد جرت زمن المعز الفاطمي الحاكم الرابع للدولة الفاطمية والذي انتهج سياسةً جديدة وهي تهيئة مصر للفاطميين قبل اقتحامها وذلك عن طريق الدعاية السياسية داخل صفوف كبار الدولة الإخشيدية بمصر، ونجح في ذلك إلى حدٍ كبير؛ فمثلاً عرفت مصر الدينار الفاطمي قبل دخولهم لها، إذ ضُرِب فيها 3 دنانير فاطمية ومكان ضربها في مصر خلال سنة 952م و954م و964م؛ أي قبل دخول الفاطميين لمصر وتأسيس القاهرة، وكان يتم ترويج هذه الدنانير بواسطة الدعاة السريين على الأفراد الذين يتوسم فيهم الاستجابة للدعوة الفاطمية.[1]

دينار يعود لزمن المعز لدين الله
دينار يعود لزمن المعز لدين الله

رجال الفاطميين في مصر كانوا هم المغاربة الذين انتشروا زمن الإخشيديين واعتبرهم المؤرخ السني بن تغرى بردى أنهم سبب الاضطرابات في مصر لكونهم أعوان للفاطميين الموجودين بالمغرب[2]، مما يفيد أن المغاربة نجحوا في استمالة عدد من القواد ووجهاء الشعب وأهل البلاد، ويؤكد ذلك أنه في يوم عاشوراء عند مسجد السيدة نفيسة كانت تكثر منازعات بين جند السودان وجماعات من الرعية كون أن جند السودان يتعصبون فيها على الشيعة.[3]

مسجد السيدة نفيسة
مسجد السيدة نفيسة

ووصل الأمر لتأسيس بيت في مصر شيده أبو جعفر أحمد بن نصر لأخذ البيعة للمعز[4]، كل هذا يفيد أن الفاطميين كان لهم عيون ورجال يمهدون أرضها لتأسيس دولتهم وإزاحة دولة الإخشيد، فمثلاً الوزير يعقوب بن كِلِّس كان يعمل في بلاط كافور الإخشيدي، ولما مات كافور قام الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات الذي كان يكرهه للمكانة التي وصل لها، بسجنه ثم نفاه خارج مصر فسافر بن كلس والتقى بالمعز وبقي بصحبته إلى أن جاء معه عندما دخل مصر.[5]

من داخل باب النصر (دفن بن كِلِّس بالقرافة المجاورة لباب النصر)
من داخل باب النصر (دفن بن كِلِّس بالقرافة المجاورة لباب النصر)

وهناك إشارة أوردها بن الزيات تكشف بداية تفشي انتشار الفكر الفاطمي بمصر قبل دخول الفاطميين لها حيث قال أن قاضي مصر السني أبو الطاهر محمد بن أحمد بن نصر الذهلي ناظر رسولاً قدم إلى مصر من الفاطميين قبل دخولهم لها[6]؛ كافة هذه الوقائع تشير إلى أن المصريين كانوا على معرفة ليست بالقدر الكافي من السطحية وليست طفيفة بالفاطميين سياسةً وفكرًا، رغم عدم انتشار التشيع في مصر.

الفاطميون في مصر .. أشكال فرض التشيع قبل تأسيس الأزهر

خريطة القاهرة في عهد الدولة الفاطمية
خريطة القاهرة في عهد الدولة الفاطمية

دخل الفاطميون مصر سنة 968م / 358هـ، وفي 22 يونيو 971م / 7 رمضان 361هـ بدأ تاريخ الأزهر كدارٍ للعبادة، حيث صُلِّيَت فيه أول صلاة وهي صلاة الجمعة، وفي يوم الأحد 24 يونيو / 9 رمضان، انتهى بناء الجامع الأزهر بعد عامين من وضع حجر الأساس له في يوليو 968م / رمضان 358هـ.

خريطة توضِّح مسار التوسعات الفاطمية
خريطة توضِّح مسار التوسعات الفاطمية

هذه التواريخ تفيد أن جوهر الصقلي وجيشه الفاطمي مكثوا في مصر 3 سنوات دون أن يكون لدولتهم جامع خاص بهم كـ شيعة ولو صغير ومؤقت؛ فأين كانت الصلاة تتم خلال السنوات الثلاثة؟.

زاوية من زوايا جامع عمرو
زاوية من زوايا جامع عمرو

بدراسة لحركة جوهر الصقلي في مصر خلال تلك السنوات نجد أن صلاة الجمعة والعيدين كانت تأديتهم تتم في مسجدي عمرو بن العاص (المشار له في كتب التاريخ بالعتيق) وأحمد بن طولون، وتلك المساجد مساجد سُنيِّة مما يعطي إشارةً إلى رؤية الفاطميين بعدم الصدام مع السنة في مصر إلى حين.

فناء وأروقة مسجد ابن طولون زمان
فناء وأروقة مسجد ابن طولون زمان

ولا نلحظ في السنوات الأولى لوجود جوهر في مصر أي ملمح من ملامح نشر التشيع في عموم المصريين إلا 3 مرات وجميعها قبل تأسيس الأزهر:-

  • الأولى أنه في السنة الأولى لدخوله مصر أفطر رمضان وصلى عيد الفطر دون استطلاع رؤية الهلال المعروفة عند السُّنَّة، وكان إمام الصلاة علي بن وليد الإشبيلي، وكانت هذه الصلاة خاصة بجوهر وجنده وداخل القاهرة، والمقريزي لم يحدد أين صلى العيد، لكنه أكد أن أهل مصر لم يصلوا العيد (لأن الرؤية لم تظهر موعد رمضان)؛ فصلوا بناءًا على الرؤية، ولما بلغ جوهر ذلك لم يمنع المصريين لكنه استنكر على ما فعله أبو طاهر القاضي الذي استطلع الهلال.[7]
  • أما الثانية فكانت بعد 3 أشهر حيث منع قراءة سورة الأعلى في صلاة الجمعة ومنع التكبير بعد نهاية الصلاة في أيام التشريق بذي الحجة.[8]
  • وجاءت الواقعة الثالثة متمثلةً في الأذان الشيعي والذي عرفته مصر لأول مرة بعد سنة من دخول الفاطميين لها، حيث ظهر أولاً في جامع أحمد بن طولون يوم الجمعة 18 مارس 970م / 8 جمادى الأولى 359هـ، وفي منتصف إبريل من نفس العام / آخر جمادى الأولى 359هـ عرف جامع عمرو بن العاص الأذان الشيعي.[9]
من جدران جامع عمرو بن العاص
من جدران جامع عمرو بن العاص

رغم تلك التغييرات التي أحدثها جوهر لكنه لم يكن ليرغب في الاصطدام الدموي شعبيًا مع المصريين السُنَّة، فمثلاً في يونيو 971م / رمضان 361هـ ألقى الفاطميون القبض على امرأة عجوزة كانت تنشد وليس معروفًا بأي شيء تنشد، لكن من الواضح أنها كانت تنشد للفاطميين طائفيًا، ففرح المصريون السنة وهتفوا بذكر الصحابة بل وقالوا «معاوية خال المؤمنين، وخال علي»؛ فلم يكن رد فعل جوهر القبض عليهم إنما اكتفى بإرسال رسول منه ينادي في مسجد عمرو ويقول: أيها الناس أقلوا القول ودعوا الفضول، إننا حبسنا العجوز صيانةً لها، فلا ينطقن أحد إلا وحلت عليه العقوبة الموجعة.[10]

منظر داخلي من جامع عمرو بن العاص قديمًا
منظر داخلي من جامع عمرو بن العاص قديمًا

هذه الوقائع تفيد أن جوهر في سنواته الأولى وإن كان عازمًا على نشر المذهب الشيعي لكن طرق نشره كانت تمس العبادات فقط دون تعليم المذهب ولو إلى حين، وكانت العبادات هي أحد رموز الدولة الشيعية لكنها تتم عبر مساجد السنة التي تتم فيها حلقات العلم السني، وبالتالي كان لابد من تأسيس جامع له مهمتين:- الأولى يكون ممثلاً للدولة، والمهمة الثانية منافسة مساجد السنة علميًا ومذهبيًا.

تأسيس الأزهر بهدف نشر التشيع .. هل حدث الغرض وحقق النجاح ؟

تاريخ التعليم في الأزهر
رسمة تعبيرية عن تأسيس الجامع الأزهر

الأزهر منذ ظهوره في 22 يونيو 971م / 7 رمضان 361هـ، كان حاضرًا كمكان في كل فعاليات الدولة الفاطمية سياسيًا وفي احتفالاتهم كمسجدٍ يمثل الدولة وقد أدى الأزهر مهمته تلك بنجاح؛ لكن مهمة الأزهر العلمية المذهبية (فاطميًا) عن طريق التعليم لم ينجح فيها مطلقًا، وعلة ذلك أن الأمور تُحْسَب بالنتائج؛ فقد بدأ تاريخ التعليم في الأزهر الفاطمي عندما انعقد أول درس به في أكتوبر 975م / صفر 365هـ إذ كان تأثيره محدودًا طيلة 34 عامًا إلى أن تأسست دار الحكمة.

تاريخ التعليم في الأزهر
الأزهر والفاطميين – رسمة تعبيرية

هناك 4 أسباب وراء محدودية تأثير الأزهر هي :-

  • المصريون في الأساس يحبون آل البيت ولا يحتاجون لمن يعرفهم بهم، بالتالي لعبت المعاقل السنية العلمية في مسجدي عمرو وطولون دور المقاومة السنية للتعاليم الشيعية، فأجهضت مهمة الأزهر.
  • الفاطميون في سنواتهم الأولى كانوا معزولين ومجتمع مغلق.
  • قيام الدولة الفاطمية بتأسيس منشآت أخرى غير الأزهر لنشر التشيع مثل جامع الحاكم وجامع الأقمر، مما يفيد باحتياج الأزهر لدعم.
  • تأسيس دار الحكمة 395هـ / 1004هـ التي سحبت البساط من كل منشآت الفاطميين.
محراب الظلة الفاطمية في الأزهر الآن
محراب الظلة الفاطمية في الأزهر الآن

هذه الأسباب وأكثر يمكن استنباطها لما نتعرف على تاريخ التعليم في الأزهر الفاطمي، فنَشْر التشيع فكريًا ما كان ليحدث إلا بالتعليم والتعليم مرحلة من مراحل نشر التشيع، وبداية التعليم في الأزهر الفاطمي كانت متأخرةً عن تأسيسه، فبعد 3 سنوات من بناءه وتحديدًا في أكتوبر 975م / صفر 365هـ، كانت أول حلقة علمية شيعية في الأزهر.

تاريخ التعليم في الأزهر
تصور بالجرافيك لشكل التعليم في الأزهر زمن الفاطميين – المصدر || وثائقي الخوذة والعمامة

علة التأخر أن الفاطميون في عصر المعز كانوا حكومة منفصلة عن مجموع رعاياها من أهل البلد الحقيقيين بسبب مذهبهم الديني (الشيعي)، مما أفقدهم تأييد أهل البلاد الحقيقيين (السنة)، فلم يعمد المعز لنشر الدعوة الإسماعيلية في مصر إلا في أضيق الحدود ونادرًا ما جرت أي محاولة لحث المصريين على اعتناق المذهب الإسماعيلي زمن المعز[11]، وليس هذا بسبب أن المعز لدين الله كان متسامحًا مع السنة وإنما لأن دولته لم تكن قد استقرت في مصر بعد.

تصور لشكل الجامع الأزهر من الأعلى بالجرافيك زمن الفاطميين - المصدر || وثائقي الخوذة والعمامة
تصور لشكل الجامع الأزهر من الأعلى بالجرافيك زمن الفاطميين – المصدر || وثائقي الخوذة والعمامة

وهذه الحلقة العلمية لا يمكن اعتبار الأزهر بموجبها بدأ ينشر التشيع في مصر، وذلك لأن تلك الحلقة حضرها عدد قليل من الفاطميين وليسوا أهل مصر، ونظمها قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان، وقام بتدريس كتاب الاقتصار الذي ألفه أبوه النعمان بن حيون، وإذا كانت مجالس علي بن النعمان أخذت شكل حلقات العلم، لكن لم تكن حلقات تعليمية بالمعنى الشامل لدروس العلم، إنما حلقات دعاية دينية وسياسية ويتم تخصيصها للأكابر والخاصة دون عامة أهل مصر.[12]

غلاف أول كتاب تم تدريسه في الأزهر
غلاف أول كتاب تم تدريسه في الأزهر

بعد حلقة بن النعمان التي تمت قبل وفاة المعز بشهرين، انتقلت الدروس من الأزهر للقصر الفاطمي أو زادت، ثم عقدت حلقة أخرى في الأزهر بعد حلقة بن النعمان بـ 5 سنوات على يد الوزير يعقوب بن كِلِّس وتحديدًا في مارس 980م / رمضان 369هـ وكانت أول مجلس علمي داخل الجامع الأزهر قرأ فيه كتابًا في الفقه الإسماعيلي عُرِف باسم الرسالة الوزيرية وتضمن ما سمعه من المعز لدين الله وولده العزيز، وكان يجلس لقراءته بنفسه في الناس عمومًا.

تاريخ التعليم في الأزهر
منظر علوي لمدخل الظلة الفاطمية في الأزهر

وقد استهل بن كلس درسه بإحضار جماعة من الفقهاء وأهل الفتيا وأخرج لهم كتاب الرسالة الوزيرية التي جمع على عملها 40 فقيهًا وبدأ بشرح كتاب الطهارة وقال هذا عن مولانا الإمام العزيز بالله عليه السلام عن آباءه الكرام[13]، وقد وصل صدى الكتاب لدرجة أن بعض العلماء في جامع عمرو بن العاص كانوا يفتون الناس منه.[14]

جامع عمرو بن العاص
جامع عمرو بن العاص

النجاح الذي حققه يعقوب بن كلس سنة 980م جعله يقترح على الخليفة العزيز بالله الفاطمي أن يقوم بالتدريس في الأزهر وفي بيته بجوار الجامع ويقوم الخليفة بتعيين جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس بمجلسه ويلازمونه ويعقدون مجالسهم العلمية في الجامع الأزهر من بعد صلاة الجمعة حتى صلاة العصر، وكان عددهم 37 فقيهًا ومنظم حلقتهم هو أبو يعقوب قاضي الخندق.

العزيز بالله - رسمة متخيلة
العزيز بالله – رسمة متخيلة

ويعطي المقريزي وصفًا للاهتمام الفاطمي بذلك الاقتراح الذي مثل طفرة في تاريخ تعليم الأزهر فيقول «أطلق لهم (يقصد الخليفة الفاطمي العزيز بالله) ما يكفي كل واحد منهم من الرزق وأمر لهم بشراء دار وبنائها فبنيت بجانب الجامع الأزهر، وكان لهم أيضًا من مال الوزير (بن كلس) صلة في كل سنة، وكان عدتهم خمسة وثلاثين رجلاً وخلع عليهم (أعطاهم كسوة) العزيز يوم عيد الفطر وحملهم على بغلات».[15]

إقرأ أيضا
شقو
عملة من زمن العزيز بالله
عملة من زمن العزيز بالله

من ذلك الوصف يتضح أن الأزهر بجانب كونه دار عبادة تحول إلى معهد ديني ملحق به مبنى يشبه الآن المدينة الجامعية وكان لمن فيها مرتبات ثابتة؛ ومن هنا كانت نواة التعليم في الأزهر التي تطورت لاحقًا.

تاريخ التعليم في الأزهر
مكان الدراسة في الأزهر زمن الفاطميين – صورة من الثمانينيات

رغم هذا الشكل التعليمي الذي كان فيه الأزهر، لكنه لم ينجح في تنفيذ مهمته، ولذا كان أول صدام مذهبي علمي في مصر حدث بعد بداية التدريس في الأزهر أكاديميًا بسنتين في زمن العزيز بن المعز وتحديدًا عام 982م / 372هـ عندما ألقي القبض على رجل بمصر وتم ضربه وزفته في البلد لأن لديه كتاب الموطأ في الفقه المالكي السّني.[16]

مسجد الإمام الحسين زمان
مسجد الإمام الحسين زمان

ويلاحظ بدورة حركة تاريخ التعليم في الأزهر الفاطمي أن الكتب التي دُرِّسَت به لم تكن تخص عقائد الشيعة وإنما فقط الفقه على المذهب الإسماعيلي وذلك بهدف اختراق المجتمع المصري عن طريق العادات والعبادات، ولم يحدث ذلك الاختراق إذ لم يكن للفاطميين إرث عقائدي خلفوه للمصريين ولا حتى في العادات باستثناء بعض المظاهر الاحتفالية وفق ما يروق لنفسية المصري كاحتفالات شهر رمضان وعاشوراء.

تاريخ التعليم في الأزهر
نسخة من مخطوطات موطأ الإمام مالك

مات العزيز بالله نزار الفاطمي في 996م وكان قد مضى على تاريخ التعليم في الأزهر وظهور الجامع نفسه ربع قرن، خلالها تأرجح شكله، ولخص محمد عبدالله عنان في تاريخه شكل التأرجح فقال «لما تأسس أريد له أن يكون رمزًا للخلافة الجديدة ولم ينشأ لغاية علمية أو دراسية، والبداية التعليمية فيه التي كانت متواضعة أواخر عصر المعز لدين الله وانتظامها في عهد العزيز بالله لم تكن شيئًا جديدًا في تقاليد المساجد الجامعة بمصر كجامع عمرو مثلاً؛ والاتجاه الدراسي الذي دفع الأزهر إلى طريقه كان وليد المصادفة والظروف ووليد رغبة عارضة لوزير عالم وأمير مستنير، بيد أنه إذا كانت الخلافة الفاطمية لم تقد في البداية أن توجه الأزهر إلى تلك الغاية الجامعية المحضة، فقد كان في برنامجها أن تحقق هذه الغاية على يد معهد دراسي خاص وأن تقيم في العاصمة الجديدة جامعة للدرس ونشر المذهب الفاطمي، ولم تر أن تتخذ من الأزهر وهو مسجد الدولة الرسمي مقرًا لهذه الجامعة، بل أريد أن تكون الجامعة الجديدة معهدًا مستقلاً بذاته، وعلى ذلك أنشئت دار الحكمة الفاطمية أو دار العلم الشهيرة، أنشأها الحاكم بأمر الله ولد العزيز في 10 جمادى الآخرة 395هـ / مارس 1005م، أعني لنحو 35 عامًا من قيام الجامع الأزهر وكانت تعقد قبل ذلك بالقصر وأحيانًا بالأزهر مجالس تسمى مجالس الحكمة ينظمها قاضي القضاة وتقرأ فيها علوم آل البيت ويهرع الناس لشهودها وتخصصة فيها مجالس للخاصة ومجالسة للكافة ومجالس للنساء، ولكن الحاكم رأى أن تكون هذه المجالس أوسع مدى وأن تنظم في سلك حلقات دينية وعلمية متصلها يجمعها معهد رسمي واحد فأنشئ المعهد الجديد وأطلق عليه دار الحكم أو دار العلم».[17]

تاريخ التعليم في الأزهر
من أبواب القصر الغربي الفاطمي – كانت دار الحكمة تقع بجواره

من نص محمد عبدالله عنان وقراءته نجد أن فشل هدف الأزهر في نشر المذهب الإسماعيلي علميًا يعود إلى 4 أمور:-

  • ارتباط الأزهر وجدانيًا عند المصريين بأنه مسجد الدولة الرسمي، وعليه فلا يمكن الجمع بين المسجد الرسمي السياسي والجامعة العلمية حتى لو تأسست لغاية سياسية.
  • عدم وضع هيكلة مؤسسية للمناهج التعليمية في الأزهر كدار الحكمة حتى يتم نشر المذهب الإسماعيلي بشكل منظم.
  • أن الأولوية التعليمية في سياسية الفاطميين بعد عصر الحاكم تكون لدار الحكمة، وللتقريب يمكن اعتبار الأزهر أنه بمثابة معهد ثانوي ودار الحكمة جامعة، وهذا التقريب مبالغ فيه لقلة عدد الملتحقين بالأزهر عكس دار الحكمة، لكنه الأنسب.
  • مقاومة العلماء السنة في مصر لما هو إسماعيلي المذهب.

مما يعزز الأمر الثالث والرابع أنه في سنة 1026م / 416هـ أصدر الظاهر لإعزاز الله الفاطمي ولد الحاكم أمرين، أحدهما نفي فقهاء مصر المالكية وغيرهم، والثاني أن يقوم أمير الدعاة بتحفيظ الناس كتابي دعائم الإسلام للقاضي النعمان، ومختصر الرسالة الوزيرية لبن كلس، وأن من يحفظهما من الناس سيكون له أموال[18]، وإن كان الدعاة قد جلسوا في الجامع الأزهر للمناظرة لتداول الأمر[19]، فالدعاة هؤلاء في الأساس كانوا أساتذة دار الحكمة.[20]

دينار يعود إلى عهد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله
دينار يعود إلى عهد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله

نقطة أخيرة تعزز جزئية أن دار الحكمة كانت أقوى انتشارًا وتأثيرًا من الأزهر نختم بها تحقيقنا، أن العلماء والرحالة الذين زاروا مصر وقت دار الحكمة لم يشيدوا بالجامع الأزهر مثل إشادتهم بدار الحكمة، ومن هؤلاء ناصري خسرو الذي زارها سنة 1048م وعبدالعزيز بن أبي الصلت الأندلسي، وذلك لأن الأزهر كان فيه الطابع الديني التعبدي الخالص يدرس فيه العلوم الدينية بنوع من الحرية دون التقيد المطلق بالقيود المذهبية، بينما دار الحكمة غلبت عليها الصبغة المدنية والفلسفية وتقتصر في التعليم الديني على علوم الشيعة وعقائدها وتتقيد بجميع قيودها المذهبية[21]، ووليس أدل من ذلك سوى أن الحسن بن الصباح من الذين درسوا في دار الحكمة في أواخر أيامها.[22]

اقرأ أيضًا
برومو مسلسل الحشاشين “شرح ما قيل وظهر من تاريخ في لقطاته”

ولما نتبين تاريخ التعليم في الأزهر خلال العصر الفاطمي نجد أن سبب القوة العلمية ومكانة الأزهر العلمية التي اكتسبها وتأثيره في العالم الإسلامي كانت بداية الدولة المملوكية أي بعد 3 قرون من تأسيسه، «الدولة المملوكية جاءت بعد زوال الفاطميين (استمروا 200 سنة) والأيوبيين (استمروا 81 سنة)»، وذلك لأن المؤسسات العلمية الكبرى الضخمة في العالم الإسلامي بالشرق كانت قد انهارت مع التتار، لتبرز القوة العلمية للأزهر انتشارًا وتأثيرًا وتلك قصة أخرى.


[1]  أيمن فؤاد سيد، الدولة الفاطمية في مصر .. تفسير جديد، ط/1، الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة، القاهرة، 2007م، ص129.
[2]  بن تغرى بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج3، ط/1، مكتبة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1351هـ / 1932م، ص326.
[3]  المقريزي، اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، تحقيق: جمال الدين الشيال، ج1، ط/2، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف، القاهرة، 1416هـ / 1996م، ص146.
[4]  بن زولاق، أخبار سيبويه المصري وهو غير سيبويه النحوي، ط/1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1352هـ / 1933م، ص40.
[5]  الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين تحت إشراف شعيب الأرنؤوط، ج16، “تحقيق: أكرم البوشي” ط/11، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ / 1996م، ص442.
[6]  بن الزيات، الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة، ط/1، مكتبة المثنى، بغداد، 1968م، ص63.
[7]  المقريزي، اتعاظ الحنفا، ج1، ص116.
[8]  المرجع السابق، ص119.
[9]  المرجع السابق، ص ص120–121.
[10]  المرجع السابق، ص ص130–131.
[11]  أيمن فؤاد سيد، الدولة الفاطمية في مصر .. تفسير جديد، ص ص153–154.
[12]  محمد عبدالله عنان، تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي مع تكملة له حتى العصر الحاضر، ط/1، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1361هـ / 1942م، ص42.
[13]  بن الصيرفي، الإشارة إلى من نال الوزارة، تحقيق: عبدالله مخلص، ط/1، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1923م، ص22.
[14]  بن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، ج7، ط/1، دار صادر، بيروت، 1994م، ص30.
[15]  المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج4، ط/1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ / 1998م، ص52.
[16]  المرجع السابق، ص163.
[17]  محمد عبدالله عنان، تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي، ص ص–4952.
[18]  المقريزي، المواعظ والاعتبار، ج2، ص192.
[19]  المقريزي، اتعاظ الحنفا، ج2، ص175.
[20]  محمد عبدالله عنان، تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي، ص85.
[21]  المرجع السابق، ص56.
[22]  عباس محمود العقاد، فاطمة الزهراء والفاطميون، ط/5، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2006م، ص110.

وانظر :- محمد عبدالله عنان، تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي، ص54.

الكاتب

  • تاريخ التعليم في الأزهر وسيم عفيفي

    باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان