“اختبار اللهجة المصرية” كلمات اختفت وكان المقصود منها غير معناها
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ابتكر مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر في أواخر أغسطس عام 2024م، ترندًا أو تطبيقًا حمل اسم «اختبار اللهجة الفلاحي»، ويخص مصطلحات أهل الدلتا، وعلى حذوها دخل الإسكندرانية والبورسعيدية والصعايدة؛ وبغض النظر عن أبعاد تناول ذلك (التريند) عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بين ساخر ومندهش، إلا أن اختبار اللهجة الفلاحي وغيرها من اللهجات ألقت الضوء على تطور شكل المصطلحات من إقليم لآخر.
اللهجة المصرية .. تراث محفوظ ومصطلحات لم يعد موجود
حظيت اللهجة المصرية باهتمام من علماء اللغة سواءًا في العصور الوسطى أو العصر الحديث، ويدلل على ذلك كمية المراجع التاريخية التي وُضِعت لتلك اللهجة[*]؛ ولسنا في هذا التقرير بصدد شرح تاريخ اللهجة المصرية وتطورها[**]، بقدر ما نتطرق إلى أبرز المصطلحات التي كانت في اللهجة المصرية واختفت للأبد، وكان ظاهر مبناها الحرفي غير معناها ويعود زمنها من العصر العباسي لنهاية العصر العثماني.
البَغْلَات (المعنى حيوان والمقصود جواري)
كانت كلمة بغلات في اللهجة المصرية زمن العصر العباسي تقال على نوع من الجواري، وتناول الجاحظ ذلك المعنى في موقف طريف حدث له مع قاضٍ من مصر، فيقول الجاحظ أنه التقى رجل من العراق كان عند قاضي مصر، وقال القاضي لبعض جلسائه، عندي جارية أعاشرها (المعاشرة الحميمة) منذ حين، وقد اعتراني شبق، وأنا عليّ أن أشتري بغلة، فقالوا له وما تصنع بالبغلة، فقال أجامعها وأصيب منها، فتضجر العراقي وقال في نفسه: هذا القاضي أمْجَن الناس وأحمقهم، يتكلم بهذا وهو قاضٍ».[1]
بالتأكيد فإن الجاحظ اندهش من القصة، لكن صدمته جاءت لما ذهب العراقي لصديقٍ له من مصر وقال كيف للقاضي أن يعاشر البغلة، فضحك المصري وقال: عافاك الله، ما منا من أحد هنا، إلا وعنده بغلات يـ (يفعل معهم الأمر لكنه لفظ خارج في اللهجة المصرية)؛ فتعجبت فلما رأى إنكاري فسر لي معنى البغلة عند أهل مصر».
وسجل الجاحظ معنى كلمة بغلة في اللهجة المصرية قائلاً «البغلات جواري من رقيق مصر، نتاج بين الصقالبة (أناس من بلاد البلغار من شرق أوروبا) وجنس آخر، الواحدة منهن يقال لها بغلة؛ ولهن أبدان ووثارة (كثرة الشحم)».
ويبدو أن ذلك المعنى كان مشهورًا عند علماء اللغة، فذكر الزمخشري معنى بغلة قائلاً «يقول أهل مصر اشترى فلان بغلة حسناء يريدون الجارية[2]، والبغلات جوارٍ من رقيق مصر[3]»؛ وهو نفس قول الزبيدي في قاموسه أيضًا.[4]
حريفي (المعنى مهارة أو صنعة والمقصود رومانسية)
إن سمعت الآن كلمة حريفي فلربما تعتقد ان قائلها مدرب فرقة ويقول عن لاعب أنه حريف وياء الانتساب معناها أن المدرب هو مكتشفه؛ لكن في اللهجة المصرية زمن العثمانيين كان معناها محبوبي، وحكى ذلك الكاتب المصري يوسف بن محمد الشربيني.[5]
ومعنى الكلمة متطور عن أصل دلالي فصيح لأن الحريف في اللغة معناه المعامل للناس وتكثر المعاملة في الغالب مع المحبوب والصديق، وهو وا قاله الجوهري في كتاب الصحاح والأصمعي في كتاب اللسان.[6]
الطبل (المعنى آلة موسيقية والمقصود أزياء واقتصاد)
بين العصر الفاطمي والأيوبي لم تكن كلمة الطبل مقتصرة فقط على الآلات الموسيقية، إنما كان لها معنى آخر وهو الأزياء، إذ كان يطلق على الثياب التي عليها صورة الطبل[7]، وكانت مخصصة لأمراء مصر.[8]
ليس ذلك فحسب فإن كلمة الطبل أيضًا كانت تقال أيضًا على وكانت أيضًا تقال على الخراج وجاء ذكر ذلك عند الزبيدي في تاج العروس والزمخشري في أساس البلاغة، وسبب استخدام كلمة الطبل للخراج فسره أبو بكر الرازي في مختات الصحاح وهو أن طبل الطبل اسم للقالب الذي تُضْرَب عليه الدراهم والدنانير.[9]
بق (المعنى حشره والمقصود طعن معين)
بمجرد أن تسمع كلمة (بَقْ) يسري للذهن أن المقصود به تلك الحشرة اللعينة الشهيرة، لكن لدى لهجة أهل مصر والصعايدة تحديدًا معنى آخر بكسر الباء، إذ تعني (فتح البطن) سواءًا بعملية أو طعنة، والبق لغويًا يعني (الواسع العريض أو إخراج ما في الشيء) وذكر ذلك بن منظور في لسان العرب.[10]
المَجَّ = (المعنى أداة شرب والمقصود غير ذلك)
في لهجة أهل مصر زمن العثمانيين كانت كلمة مَجَّ تعني الكلام الكريه الذي لا يسمع، وكان أهل مصر يقولون «ده كلام مَجَّه السمع»؛ وهو مشتق من جملة (مج الشراب من فيه أي رماه).[11]
هَبُد = (ظاهرها القول بغير الصواب ومعناها آخر)
لم تكن كلمة هبد في اللهجة المصرية أواخر العصر المملوكي تعني ما تقصده نفس الكلمة الآن، وإنما كانت تعني المقصود منها الحنظل والمرارة (فلان هبُد أي أسلوبه مر) ثم تطورت في العصر العثماني لتكون وصفًا لرعاع الناس بعد إضافة واو لها.[12]
حَبَّة = (ظاهرها مقدار والمعنى بوسة)
تضاف كلمة (حبة) إلى مصطلحات المقادير عند المصريين مثل (شوية)؛ لكنها قديمًا كانت تعني البوسة وهي موجودة عند أهل الصعيد، وقد ورد ذكرها عند البكري بقوله «يقول العامة الآن حَبَّه في معنى باسه».[13]
[*] أبرز المراجع التي تناولت مفردات اللهجة المصرية هي :-
- جمال الدين يوسف بن زكريا المغربي، دفع الإصر عن كلام أهل مصر، تحقيق: عبدالمحسن محمود جودة، ط/1، مجمع اللغة العربية، القاهرة – مصر، 1435هـ / 2014م
- ابن أبي السرور البكري، المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب، تحقيق: هشام عبدالعزيز وعادل العدوي، ط/1، أكاديمية الفنون، القاهرة ـ مصر، 2006م
- وفا أفندي محمد القوني، معجم التحفة الوفائية في العامية المصرية، تحقيق: هشام عبدالعزيز، ط/1، مكتبة الإسكندرية ـ مصر، 2016م
- أحمد تيمور، معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية، تحقيق حسين نصار، (5 أجزاء)، ط/2، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة ـ مصر، 1423هـ / 2002م
- ياسر المرسي، تراث اللهجة المصرية المفقود، مجلة كلية اللغة العربية بإيتاي البارود – جامعة الأزهر، مج33، ع2، أكتوبر 2020م، ص ص 1851-1912
[**] للاستزادة حول تطور اللهجة المصرية واللهجات المحلية عمومًا؛ انظر ملف اللهجات المحلية بريق التنوع المهدد، منشور على مجلة المجلة العربية (السعودية)، ع575، ص ص3-45.
♦♦♦
[1] الجاحظ، القول في البغال، تحقيق: شارل بلا، ط/1، مصطفى البابي الحلبي، 1375هـ / 1955م، ص67.
[2] الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق: محمد باسل عيون السود، ج1، ط/1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1419هـ / 1998م، ص69.
[3] الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، تحقيق: عبدالأمير مهنا، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان، 1412هـ / 1992م، ص355.
[4] الزبيدي، تاج العروس من جوهر القاموس، تحقيق: محمود محمد الطناحي، ج28، ط/1، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، 1385هـ / 1965م، ص97.
[5] الشربيني، هز القحوف في شرح قصيدة أبو شادوف، ط/2، المطبعة الأميرية، بولاق ـ مصر، 1308هـ / 1891م، ص65.
[6] ياسر المرسي، تراث اللهجة المصرية، ص1866.
[7] محمد بن أحمد بن الأزهري، تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، ج13، ط/1، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 2008م، ص240.
[8] الزمخشري، أساس البلاغة، ج1، ص595.
[9] ياسر المرسي، تراث اللهجة المصرية، ص1875.
[10] ابن منظور، لسان العرب، ج10، ط/3، دار صادر، بيروت – لبنان، 1414هـ / 1993م، ص24
[11] ابن أبي السرور البكري، المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب، تحقيق: هشام عبدالعزيز وعادل العدوي، ط/1، أكاديمية الفنون، القاهرة ـ مصر، 2006م، ص151.
[12] المرجع السابق، ص207.
[13] المرجع السابق، ص237.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال