“بدون شماتة” هكذا تفاعل الفلسطينيون مع وفاة بلفور في صحافتهم
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
لم تأخذ وفاة وزير الخارجية البريطاني “آرثر جيمس بلفور” (1848 – 1930) حظها من الشهرة مثل وعده، بل إن حياته الصاخبة في مسيرة الدبلوماسية البريطانية لم تُقْتَرَن إلا بوعد الذي لا يملك لمن لا يستحق، وعد 2 نوفمبر 1917م بجعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود.
وفاة بلفور وأيامه الأخيرة
حدثت وفاة بلفور في 19 مارس 1930م، عن عُمْر 81 سنة، وقد بدأت صحته في التدهور مع نهاية عام 1928م، إذ فقد معظم أسنانه، ثم عانى من مشاكل في الدورة الدموية، تفاقمت بإصابته بالتهاب الوريد الخثاري، والذي أدى لاحقًا إلى تقييد حركة بشكلٍ كامل.
مكث بلفور في منزل أخيه، في النهاية واستجابة واستجابة لرغبتة بلفور، لم تُقم له جنازة عامة ودُفن في “ويتنجهام”؛ وفق طقوس كنيسة اسكتلندا بجوار أفراد عائلته وبحسب ترتيب خاص.
وتزامنت وفاة اللورد بلفور مع انطلاق وفد فلسطيني إلى لندن، بهدف منع تنفيذ الوعد الذي منح اليهود الحق في إقامة دولة لهم على أراضي فلسطين، إلا أن تلك المفاوضات انتهت دون تحقيق أي تقدم.
تغطية الصحف الفلسطينية لخبر وفاة بلفور
بدأت الصحف الفلسطينية في تغطية خبر وفاة آرثر بلفور بعد يومين من رحيله، وتميزت هذه التغطية بابتعادها عن أي شكل من أشكال الشماتة أو التشفي، لم يكن الدافع وراء هذا الحذر خشيةً من مصادرة الصحف في ظل الانتداب البريطاني، بل كان ترجمةً لأخلاق الشعب الفلسطيني في تلك الفترة.
على سبيل المثال، كتبت “جريدة النهضة” لصاحبها وديع صنبر: «لا يسعنا، ونحن عرب، أمام جلال الموت، إلا أن نكتفي بطلب الرحمة لنفسه، وأما ذلك الوعد المشؤوم فنسأل الله أن يلحقه بصاحبه قريبًا، فليس على الله أمر عسير» [1]
رصدت جريدة “الجامعة العربية”، لصاحبها منيف الحسيني، التي كانت تصدر من القدس، رد فعل اليهود عقب وفاة اللورد بلفور، وأفادت الصحيفة بأن الاجتماع العام للمجلس الصهيوني في لندن علّق جلسته في 19 مارس حدادًا على رحيله؛ وذكرت الصحفية أن الرمز الصهيوني الكبير “حاييم وايزمان” (1874 – 1952)، كان آخر من زار بلفور في بيت أخيه، وقال وايزمان أنه التقى ببلفور قبل ثلاثة أيام من وفاته وكان يدرك قرب أجله، مؤكدًا أن الصهاينة فقدوه في لحظة كانوا في أمسّ الحاجة إليه.[2]
أما الصهاينة في القدس، فقد عمهم حزنٌ شديد، وكان من مصلحتهم إظهار حزنٍ رسميّ، ليس فقط تقديرًا لدور بلفور في وجودهم على أرض فلسطين، بل كذلك بسبب التوترات التي اشتعلت بينهم وبين السلطات البريطانية عقب ثورة البراق في أغسطس 1929م، والتي أسفرت عن استشهاد 116 فلسطينيًا ومقتل 133 صهيونيًا، وقادت إلى تقييد حركة الهجرة الصهيونية نحو فلسطين.
لأجل هذا، اجتمع وفد من المجلس الملّي الإسرائيلي واللجنة الصهيونية في القدس مع المندوب السامي البريطاني، لتقديم التعازي في وفاة بلفور، وأقيم في القدس حفل تأبيني بحضور قادة الحركة الصهيونية، من بينهم فريدريك هرمان كيش (1888-1943)، مدير الدائرة السياسية في الإدارة الصهيونية في القدس، والذي قال بحسب تغطية جريدة الجامعة العربية: «إن قُرِن اسم بلفور بالصهيونية التي ترمي إلى إنشاء وطننا القومي في أرض إسرائيل يرجع تاريخها إلى أيام هرتزل، ومما يؤسف له أن حوادث أغسطس المنصرم (يقصد ثورة البراق) قد سدلت بيننا وبين الحكومة البريطانية غشاء فجعلت العلائق تتوتر نوعًا ما، ولي وطيد الأمل بأن هذه الدموع الفياضة التي يسكبها الشعب اليهودي على هذا الرجل الذي نحن مدينون له والذي نحبه ونكبره، ليندبه ويرثيه، سوف تزيل هذه الغشاوة».[3]
تحت عنوان “مات اللورد بلفور، صاحب الوعد المشؤوم”، كشفت جريدة “فلسطين” عن سلسلة إجراءات اتخذها الصهاينة في فلسطين، جاء في مقدمتها تكليف د. حاييم وايزمان أن ينقل تعازي الشعب اليهودي إلى أسرة بلفور، تلاه إرسال وفد للتعزية إلى مقر المندوب السامي، ثم توجيه الحاخامية الكبرى بإقامة الصلوات على بلفور في دور العبادة اليهودية، وأخيرًا إعلان حداد لمدة ساعة عبر تعطيل العمل في المؤسسات اليهودية.[4]
كان حسني عبدالهادي هو رئيس تحرير جريدة الكرمل وقت وفاة بلفور، ونشر مقالًا ينتقد فيه اللورد بلفور بقسوة، موضحًا أنه لو كان وزيرًا لخارجية بريطانيا، لأخضع بلفور للمحاكمة، معتبرًا أن سياساته أضرت ببريطانيا أكثر مما أفادتها.
وقبيل طبع عدد الجريدة، ورد خبر وفاة بلفور، فجرى تعديل المقال وكان فيه «ما دام اللورد صار في عالم الأموات، فلنرجُ له الرحمة ونرجو لساسة الإنجليز الهداية»، وأشارت الجريدة إلى أن بلفور رحل، لكن فكره باقٍ بين البعض من العرب، الذين يبيعون الأرض ويتاجرون بالوطنية، ويضرون فلسطين أكثر من وعد بلفور ذاته.[5]
اختار عيسى داود العيسى، رئيس تحرير جريدة فلسطين، التي كانت تصدر من يافا، عنوان “مات بلفور فيجب أن يموت وعده معه” لمقاله، وعلى الرغم من قوة مقاله وحدّته، لم يظهر فيه أي نبرة تشفٍ، بل بدا المقال سامياً في رقيّ عباراته، فقال فيه «نريد أن نشيع هنا صاحب الوعد ولكن ليس بكلمة شماتة بل بكلمة أسى وأسف لأنه غفر الله له، قد ارتضى بأن يحمل على منكبيه مسؤولية إرهاق شعبٍ لم يُجْرِم نحوه أو نحو دولته بشيء ما، بل كان يحترمه ويجله قبل الحرب وفي أثناءها».
وفي مقاله، طالب العيسى بإلقاء مسؤولية هذا الوعد على غير بلفور طالما أنه رحل عن الحياة، مشيرًا إلى أن بلفور قد تحرر من هذه المسؤولية بموته، لتبقى أثقال هذا الوعد ماثلةً على كاهل رموز الحكومة البريطانية الآخرين الذين لا يزالون يعملون على تنفيذ ما خلفه وراءه.[6]
أما بولس شحاتة رئيس تحرير جريدة “مرآة الشرق الفلسطينية”، التي تصدر من القدس، كتب «لسنا نشمت بالموت، ولكننا نود أن نقول للطاغين المستبدين أن الموت لن ينساهم، وأن الناس تذكرهم بأعمالهم، فبلفور لن نذكرله إلا وعده المشؤوم وسنذكره ما توالت المصائب وتعاقب الصروف، هذا ونرجو أن يلحقه وعده عما قريب».[7]
وقد سار منيف الحسيني على النهج ذاته في جريدة الجامعة العربية الصادرة من القدس، حيث أكد أن الموت لا يبعث على الشماتة، وأن الفلسطينيين لا يتطلعون لموت بلفور بقدر ما يرغبون في محاسبة التاريخ له، مشيرًا إلى أن جريمته ستظل وصمة لا تُمحى من ذاكرة الزمن.[8]
وفي نفس السياق، خطّ عيسى بندك، رئيس تحرير جريدة “صوت الشعب” في بيت لحم، مقالاً بعنوان “مات بلفور، فابكوه يا يهود، وترحموا عليه أيها العرب”، اتسم مقاله بعمق الأسلوب وبلاغة التعبير، ما أضفى عليه طابعًا أدبيًا راقيًا، وكشف جانبًا من أخلاق المفكرين الفلسطينيين حينها.[9]
استهل “بندك” مقاله بأن العربي لا يشمت أبدًا في الموت، ولا توجد أمة من الأمم كالأمة العربية احترامًا للأموات، بمن في ذلك بلفور صاحب الوعد المشؤوم الذي أراد به أن يقضي على أمة من الأمم العريقة، ليؤسس على أنقاضها صرحًا لشعب مشتت لا يوجد في تاريخه ما يفاخر به سوى تعذيب وقتل الأنبياء وإحداث الفتن والشرور.
وقال “البندك” في مقاله «مات بلفور وما نحن بشامتين في موته، بل نطلب إليه الرحمة ونسأل الله أن يغفر له ذنوبه، ويرأف به يوم يناقشه الحساب عن أرواح الشهداء العرب الذين ذهبوا ضحية تصريحه، وعن الأيتام والأرامل الذي أقعد بهم الدهر بسبب غلطته الكبيرة».
اقرأ أيضًا
“روجت لنفسها بالقرآن” عن حرب مصر وإسرائيل في عمليات تحريف المصحف
ووجه “البندك” خطابًا إلى بلفور قال فيه «إن ذنبك لعظيم يا بلفور وغلطتك لا تغتفر، وحسابك بيد ربك، وهو وحده القوي العظيم، وهو وحده الجبار العتيد، فهناك بين يديه لا تنفع الدبابات ولا الأساطيل ولا تجدي المدافع ولا الطيارات، ولا يغني مال اليهود ولا مقال قارون، فبماذا تلقى ربك وبماذا تحاججه وتنتحل من الأعذار»
واختتم مقاله بقوله «إننا لا نبكيك ولكن نطلب لك الرحمة، ولا نشمت بموتك، ولكن نطلب لك الغفران، ولك هذا لا يمنعنا من أن نسطر اسمك في تاريخ الأمة العربية كرجل أراد أن يقضي على شعب كريم بتصريح ظالم، نضع نصب أعيننا قبرك ونقول: اللهم اغفر لبلفور فقد كان مذنبًا».
وفيما تزايدت التساؤلات حول نهاية “وعد بلفور” بموت صاحبه، شدّد جميل البحري، رئيس تحرير جريدة “الزهور”، التي تصدر من حيفا، على أن الوعد لا ينتهي بوفاة من أصدره.
وعلق قائلًا: «لا ينبغي للناس أن يظنوا أن الوعد يموت بموت بلفور؛ فقد جاءت به السياسة البريطانية. كل ما نرجوه هو مغفرة الله لبلفور، وأن يسهل علينا التخلص من ظلم هذا الوعد».[10]
ورغم أن الفلسطينيين لم يظهروا شماتة في وفاة “بلفور”، إلا أن الصهاينة اتهموهم بها. فجاء رد جريدة ‘الجامعة العربية’ ليرد على تلك الادعاءات قائلة «العرب لا يشمتون بالموت، فإن الموت على رقاب الناس أجمع، وليس موت بلفور أو حياته يغيران من السياسة التي أنبعها الإنجليز، وسيتبعونها تجاه فلسطين أو غيرها».[11]
وانتهى تعليق الجريدة بقولها «وطالما العرب يعتقدون بأن حقهم لا يصلون إليه إلا بأنفسهم وقوة اتحادهم، وطالما هم يعتقدون بأن موت بلفور لا يغير الخطة الجديدة المَنْوِي اتباعها، فإنهم لا يشمتون ولن يشمتوا».
[1] وفاة اللورد بلفور، جريدة النهضة (الفلسطينية ـ الأدبية)، س1، ع43، 8 مارس 1930م، ص2.
[2] جزع اليهود لموت اللورد بلفور، جريدة الجامعة العربية (الفلسطينية)، س4، ع340، 21 مارس 1930م، ص3
[3] المصدر السابق، نفسه
[4] مات اللورد بلفور صاحب الوعد المشؤوم، جريدة فلسطين، س14، ع17-1297، 21 مارس 1930م، ص2.
[5] مات اللورد بلفور، جريدة الكرمل، س22، ع1449، 22 مارس 1930م، ص4.
[6] عيسى داود العيسى، مات بلفور فيجب أن يموت وعده معه ، جريدة فلسطين، س14، ع18-1298، 22 مارس 1930م، ص1.
[7] بولس شحاتة، مات بلفور، جريدة مرآة الشرق، س11، ع686، 22 مارس 1930م، ص1
[8] منيف الحسيني، مات بلفور فهل يموت وعد بلفور؟، جريدة الجامعة العربية، س4، ع342، 24 مارس 1930م، ص1وص4.
[9] عيسى بندك، مات بلفور فابكوه يا يهود وترحموا عليه أيها العرب، جريدة صوت الشعب، س8، ع606، 26 مارس 1930م، ص1
[10] جميل البحري، مات بلفور، جريدة الزهور، س4، ع166، 27 مارس 1930م، ص1
[11] اليهود يتهمون العرب بالشماتة، جريدة الجامعة العربية، س4، ع343، 26 مارس 1930م، ص3
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال