597 مشاهدة
“مظاهرة ضد مصر في إسرائيل” لا داعي للاندهاش فعلوا الأسوأ سنة 1948م

-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
أثارت دعوة ما يُعرف بـ “اتحاد المساجد في الداخل الفلسطيني” إلى تنظيم تظاهرة أمام السفارة المصرية في تل أبيب، عاصمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، حالة من الاستغراب لدى الرأي العام. إذ كيف يُعقل أن تُنظم تظاهرة ضد مصر، بسبب ممارسات إسرائيل، في قلب عاصمتها؟
لا داعي للاندهاش فعلها أشباه لهم من قبل

ورغم أن هذا الاستغراب يبدو مبررًا، فإن الحدث في حد ذاته ليس جديدًا، بل يُعد استمرارًا لسلسلة من الانتهاكات التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، وتُضعف من زخمها. ويحمل الجانب الأكبر من هذه الانتهاكات توقيع قوى الإسلام السياسي، التي لطالما استغلت القضية الفلسطينية لخدمة أجنداتها السياسية.

ولعل من أبرز الأمثلة التاريخية على هذا التداخل العمليات التي قامت جماعة الإخوان المسلمين سنة 1948م داخل مصر.

كان عام 1948م شديد الحساسية بالنسبة للإخوان سياسيًا، فالملك فاروق بدأ يتبرم منهم نتيجة لتورطهم في انقلاب اليمن في فبراير من نفس العام، وبعد ذلك كانت عملية اغتيال القاضي الخازندار بعدها بشهر كفيلة بخصم رصيد الجماعة جماهيريًا نظرًا لأن الضحية كان قاضيًا، وهو ما شكّل سابقة غير مألوفة في تاريخ القضاء المصري الحديث، منذ تأسيس ديوان الحقانية عام 1863م.

لكن اندلاع حرب فلسطين مثّل فرصة ذهبية للجماعة، إذ ساهم في تأجيل المواجهة المباشرة بينها وبين الحكومة، ففي أواخر مارس من عام 1948م، زار حسن البنا فلسطين، ثم أعلن في السادس من مايو من العام نفسه النفير العام للجماعة، متعهدًا بإرسال عشرة آلاف من أعضائها للقتال هناك.

ثم جاءت الوقاحة الحقيقية والتي تمثّلت في سلسلة العمليات التفجيرية التي نفذتها جماعة الإخوان داخل القاهرة، والتي تحوّلت حينها إلى ما يشبه مسرحًا للعمليات، تزامنًا مع حرب فلسطين التي استمرت قرابة عشرة أشهر، منذ اندلاعها في 15 مايو 1948م وحتى نهايتها في 10 مارس 1949م.
وتزعم الجماعة، في أدبياتها المنشورة سواء على موقعها الإلكتروني أو في مذكرات قادتها، أن تلك التفجيرات استهدفت منشآت يهودية داخل مصر، كرد فعل على ما يرتكبه الصهاينة من جرائم في فلسطين. غير أن هذا التبرير يتجاهل حقيقة أساسية، وهي أن يهود مصر لم يكونوا جميعًا متورطين في المشروع الصهيوني، بل إن التعامل مع أي نشاط عدائي يجب أن يكون من مسؤولية الدولة وأجهزتها الأمنية، لا من خلال أفراد أو تنظيمات خارجة عن القانون.
والأخطر من ذلك أن الجماعة لم تذكر في رواياتها أن ضحايا تلك العمليات لم يكونوا من اليهود فقط، بل شملت قائمة الضحايا مسلمين ومسيحيين ويهودًا، بالإضافة إلى أجانب، ما يكشف الطابع العشوائي والعنيف لتلك الهجمات.
شهدت القاهرة أولى تلك العمليات في 20 يونيو 1948م، عندما وقع انفجار في حارة اليهود، أسفر عن مقتل 23 شخصًا وإصابة نحو 50 آخرين، فضلًا عن تدمير ثلاثة منازل نتيجة زرع عبوات من مادة “الجلانجايت” شديدة الانفجار داخل المنازل. واستمرت أعمال رفع الأنقاض لأكثر من 12 ساعة متواصلة.

وفي 28 يوليو من العام نفسه، نُفّذت العملية الثانية، واستهدفت محل داود عدس الواقع عند تقاطع شارعي عماد الدين والألفي، في الطابق الأول من إحدى العمارات، وتحديدًا أمام باب المخزن المؤدي إلى الدور الأرضي. وأسفر الانفجار عن إصابة أربعة من العاملين بالمحل، إضافة إلى خسائر مادية قُدّرت بنحو 500 جنيه، نتيجة انفجار ماسورة الصرف الصحي داخل المبنى.

وفي 1 أغسطس عام 1948م، وقعت ثالث عمليات التفجيروهذه المرة في قلب منطقة وسط القاهرة، حيث استهدفت خمس مواقع في توقيت متزامن، شملت: متجر “جاتينيو” للملابس، مكتب التلغراف المصري بشارع عدلي، محل “بابازيان” للأدوات الموسيقية، فرع شركة “سنجر” لأدوات الخياطة، ومحل “بنزايون” للملابس، بالإضافة إلى محال تجارية أخرى داخل عمارة تتبع وقف أحمد مظلوم، ورغم ضخامة التفجيرات، لم تُسجّل حالات وفاة، لكن أُصيب 20 شخصًا، توزعت هوياتهم بين 14 مسلمًا، و3 مسيحيين، ويهودي واحد، إضافة إلى أجانب.

وبعد ثلاثة أيام، وتحديدًا في 4 أغسطس 1948م، استُهدفت شركة المعادي للتعمير بعبوة ناسفة. وقد تضمّن طاقم الشركة موظفين أجانب، ويهوديًا، بينما كان رئيس مجلس الإدارة، حسن باشا مظلوم، مسلمًا. أسفر الانفجار عن إصابة ثلاثة أشخاص، وخسائر مادية قُدّرت بـ700 جنيه.

ثم عادت حارة اليهود لتكون هدفًا لعملية تفجير ثانية في 22 سبتمبر من العام نفسه (التفجير الأول شرحناه وكان في 20 يونيو)، حيث استهدفت العبوة شارع عطة السد، المتفرع من شارع “مكسر الخشب”. أسفرت هذه العملية عن مقتل 20 شخصًا وإصابة 75 آخرين، تُوفّي سبعة منهم لاحقًا في 25 سبتمبر، كما تسبّب الانفجار في انهيار أربعة منازل وتصدّع ستة بيوت أخرى، إضافة إلى تضرر مبنى مدرسة، وأعقب الحادثة اندلاع اشتباكات أهلية، شارك فيها مسلمون ومسيحيون ضد ممتلكات يهودية، في مشهد من الاحتقان الطائفي غير المسبوق.

وفي 12 نوفمبر 1948م، استهدفت عبوة ناسفة مقر شركة الإعلانات الشرقية، الواقعة في شارع جلال خلف سينما “الكوزمو” بمنطقة عماد الدين. وتملك الشركة عدة صحف بارزة مثل “الإيجيبشيان جازيت”، و”البورص”، و”البروجريه إيجيبسيان”، وكان مالكها هنري حاييم، أحد أبرز الداعمين للصهيونية في مصر.

وأسفر هذا الانفجار عن مقتل 11 شخصًا وإصابة 20 آخرين، معظمهم من المسلمين والمسيحيين، كما أدّى إلى تصدع سبع عمارات واحتراق 16 سيارة.
ما هو المختلف الآن
يُلاحظ في تلك العمليات، رغم طابعها العشوائي وغير المنظم، أنها كانت تسعى لفرض إرادة التخويف وإشاعة الفوضى، صحيح أن بعض التفجيرات استهدفت منشآت يهودية، إلا أن العديد منها طال منازل يسكنها غير اليهود، ما يُنذر ببذور حرب أهلية داخلية.
كما أن الحصيلة البشرية لتلك العمليات تُظهر أن غالبية الضحايا كانوا من المسلمين والمسيحيين، وهو ما يطرح تساؤلات حول حقيقة الأهداف المعلنة لهذه الهجمات، إلى جانب ذلك، فإن الرسالة التي سعت الجماعة لإيصالها إلى الحكومة المصرية كانت واضحة: الإخوان باتوا جزءًا من المعادلة السياسية، وقوة يُحسب لها حساب، ليس فقط عبر التنظيم، بل أيضًا عبر السلاح.
ورغم الطابع العشوائي لتلك العمليات لكن الأدوات المستخدمة فيها لو كان تم تطويعها لإحداث تفجيرات في فلسطين المحتلة ضد المستوطنات لكان هذا أفضل، لكن الغرض أساسًا كان سياسيًا.
غير أن الفارق الجوهري بين سيناريو عام 1948م وما نشهده في عام 2025م هو الوعي. ففي أربعينيات القرن الماضي، كان الوعي العام شبه غائب، لا سيما على صعيد الإعلام، الذي لعب دورًا كبيرًا في تشويه الحقائق وتضليل الرأي العام.
فعلى سبيل المثال، روّجت بعض الصحف آنذاك لرواية غريبة مفادها أن ضحايا تفجير حارة اليهود في 20 يونيو 1948م كانوا يحتفظون بتلك المفرقعات لاستخدامها في صناعة “بمب الأطفال” أو لحماية مقر الحاخامية، في محاولة لتبرير الجريمة أو تبرئة مرتكبيها.

أما في تغطية حادث تفجير محلات “داوود عدس”، فقد نشرت جريدة البلاغ أن المنفذ يُدعى “جاكسون”، وهو موظف سابق في المحل تم فصله، فقرّر الانتقام من صاحبه. غير أن داوود عدس نفسه خرج لينفي هذه الرواية، مما وضع الصحيفة في موقف حرج، خاصة بعد أن اتضح ميلها للدفاع عن جماعة الإخوان.

وقد بلغ الانحياز حدًّا جعل الصحيفة تزعم أن التفجيرات التي استهدفت المحلات اليهودية نفذها الصهاينة أنفسهم، متهمةً اليهود بأنهم يقتلون بعضهم البعض، في محاولات ترويجية هدفها صرف الأنظار عن المسؤولين الحقيقيين.

على الصعيد الحكومي، كان هناك قدر كبير من التراخي في تعامل حكومة النقراشي باشا مع تصاعد عنف جماعة الإخوان، واستمر هذا التراخي حتى أكتوبر 1948م، حين صدر قرار بحل شعب الجماعة في الإسماعيلية وبورسعيد، وذلك عقب التفجير الثاني لحارة اليهود في سبتمبر من العام نفسه، وقد جاء ذلك القرار نتيجة المزاج العام الغاضب من اليهود عمومًا في مصر، بسبب الجرائم التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين، وهو ما أتاح للجماعة مساحة للحركة والمناورة.

لكن المشهد تغيّر تمامًا في 15 نوفمبر 1948م، حين عثرت الشرطة على “السيارة الجيب” الشهيرة، والتي كشفت وثائقها عن خطط سرية لميليشيات “التنظيم الخاص”، من بينها تفجيرات تستهدف منشآت غير يهودية، وقوائم اغتيالات لعدد من الشخصيات السياسية المصرية.

هذا الكشف سرّع وتيرة الصدام بين الحكومة والجماعة، وجاءت ذروته في 4 ديسمبر 1948م، عندما قُتل سليم زكي، حكمدار بوليس العاصمة، إثر قنبلة يدوية أُلقيت عليه أثناء محاولته فضّ مظاهرة في كلية الطب. وقد أثار الحادث صدمة واسعة، إذ لم يكن من المعتاد أن تتجاوز مظاهرات الطلاب حدود الحجارة أو زجاجات المولوتوف، لكن استخدام القنابل اليدوية كان سابقة خطيرة أثبتت تورط الجماعة، وفي 8 ديسمبر 1948م، صدر قرار رسمي بحل جماعة الإخوان المسلمين. لكن قرار النقراشي جاء متأخرًا، ودفع ثمن هذا التأخير من حياته، إذ اغتيل في 28 ديسمبر من العام نفسه.
اقرأ أيضًا
“الإجابة من تاريخه” لماذا لم يقم الإسلام السياسي بمواجهة حقيقية مع العدو؟
إن مجمل هذه الوقائع يوضح أن استغلال القضية الفلسطينية لم يكن وليد اليوم، بل هو نهج قديم من جماعات المتاجرة بالدين والسياسة. وما الدعوة اليوم إلى التظاهر داخل إسرائيل ضد مصر بحجة جرائم الاحتلال، سوى امتداد لهذا النهج. غير أن الفارق الحقيقي بين الأمس واليوم هو الوعي، والخطر الأكبر أن تؤدي مثل هذه الممارسات إلى خسارة فلسطين نفسها، من رصيد التعاطف الشعبي والإيمان بقضيتها العادلة.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما هو انطباعك؟










