عن موهبة أم كلثوم الفذة..قصة “كوكب الشرق” أم كلثوم (29)
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في حلقة جديدة ومهمة من حلقات السيرة الكلثومية، وهي حلقة بعنوان، القيمة الفنية لغناء أم كلثوم وموهبتها الفذة.
أم كلثوم إبراهيم، موهبة فذة، وغناء أسطوري
أمر مؤسف جدا أن كثير من المصريين والعرب لا يعرفون من هي أم كلثوم، بل وكثير ممن يطلقون على أنفسهم سميعة ونخبة وخلافه لا يعرفون إلا أم كلثوم التي يعرفها العوام، أم كلثوم التي تذاع وصلاتها على إحدى القنوات الفضائية، وإن سألت أحدهم عن أم كلثوم الصبية والشابة التي غنت الصب تفضحه عيونه وروحي وروحك في امتزاج والليل يطول ويكيدني وحسن طبع اللي فتني علم القلب الغرام بل لو سألته عن سلوا كؤوس الطلا أو هوى الغانيات أو أتعجل العمر أو مقادير من جفنيك حولن حاليا لقال لك ما هذه التعاويذ، حتى لو وصل الأمر إلى إسماعه تلك الدرر لتسائل: من تكون هذه المطربة، فهو لا يعرف سوى صوت أم كلثوم التي بلغت الستين والسبعين، والحق أني أشعر بالشفقة تجاه هؤلاء، فقد حرموا لذة شدو صاحبة العصمة في ربيع عمرها، لقد فاتهم فن الآنسة الذي حير الموسيقيين، فهم لم يعرفوا أم كلثوم حق المعرفة، ولم ينهلوا من بحر فنها الواسع، لذلك تلك حلقة من يريد أن يتعرف على موهبتها الفذة، ليكتشف هذا الكنز الذي خفي عنه طوال الفترة السابقة.
أقوال في صاحبة العصمة
ما من موسيقي إلا وتحدث عن فن أم كلثوم وعن موهبة أم كلثوم الفذة، وما من شاعر إلا وأشاد بإلهامها، وما من سميع حقيقي إلا وتحدث عما أحدثته كوكب الشرق في نفسه وهذه بعض أقوال فيها:
يقول شاعر الشباب أحمد رامي وهو يصف أم كلثوم وغنائها: كانت أم كلثوم صوت حنان تشعر فيه بالصدى، كان صوتها قادما من قلبها وليس من الحنجرة، كانت تغني لنفسها قبل أن تغني للناس، لقد كانت أم كلثوم تبكي وتبتلع دموعها، كانت راهبة في محراب الفن، تغني كأنها تصلي.
أما موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فكان يقول: إن في أم كلثوم ملامح عصر في طريقة الغناء والسلوك والشخصية والخلق، قدمت فنا بلا ابتذال، وسمت بأخلاق المهنة، وفي ذكرى وفاتها التاسعة قال محمد عبد الوهاب لإذاعة القاهرة الكبرى: إن في أم كلثوم عشر مغنيات معا، فكل ميزة تجعل منها مطربة كبيرة، ومن أهم مميزاتها التعبير بالجسم وباليدين وبالحركات والإيماءات وبالوجه وبالعبوس والضحك، كانت ممثلة قديرة، ولا أعني أنها كانت تفتعل، بل كانت تحس، وهذه سمة الفنان العظيم، تحس الغضب والفرح والعتاب فتؤديه، كانت مجموعة عظيمة من عطايا الله السخية، أما الصفة العظيمة العظيمة العظيمة فيها، فهي أنها ظلت هاوية حتى آخر رمق فيها، وكانت مستمعة عظيمة من الطراز الأول، فتبكي حين تتأثر بأغنية تعجبها، ولو لم تكن مستمعة عظيمة لما كان في مقدورها أن تكون مطربة عظيمة.
إقرأ أيضًا..
الجرائم الجنسية ضد المرأة والطفل ودور موقع PornHub فيها
أما الشيخ زكريا أحمد فكان يقول: إن الجملة الموسيقية بأداء الملحن تكون عادة أفضل منها بأداء المغني أو المغنية، لأنه هو خالق الجملة، أما بالنسبة لأم كلثوم فكان هذا القانون الفني ينكسر، لأن أدائها للجملة الموسيقية يكون أفضل من أدائه، إنها تجهد الملحن أولا، لمعرفة مناطق القوة في صوتها وتتحداه بموهبتها أن يقدم لها أصعب الألحان، ثم حين يؤدى هذا اللحن بصوتها الذكي أداء متميز الشخصية فهي تضفي من فهمها للمعنى على الأداء، وتلون هذا الأداء بحيث يتوهج عذابا وحبا في كل مرة تغني فيها عن الحب الإلهي، إذن فقد كان صوتها العبقري وأداؤها الذكي أول درجتين في صعود نجمها كظاهرة فنية.
موهبة أم كلثوم
ويقول زكريا هاشم زكريا: بدأت أم كلثوم خلال الأربعينات تخصص وصلة في بعض حفلاتها لأداء إحدى أغاني العشرينات فسمعنا منها وحقك أنت المنى والطلب وأفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه، وبعض الأغاني القديمة الأخرى، وكانت عودتها إلى أغنيات تلك الحقبة لتؤديها بصوت أكمل وأجمل من خلال مقدرة وذوق أكثر نضجا، أشارة منه إلى أن موهبة أم كلثوم كانت تزداد وتنضج مع مرور الزمن، ويكمل: صحيح هي لم تتمسك في أدائها بما كانت تتمسك به في العشرينات من الانضباط الصارم، ولكن كان ذلك يرجع إلى حاجتها وهي مطربة ناشئة إلى إثبات تفوقها ونفسها على الساحة.
بل ذهب المؤرخ الموسيقي الكبير كمال النجمي إلى أبعد من ذلك فقال
لقد أسهم صوت أم كلثوم إسهاما جوهريا في خلق أساليب التلحين العربية المتطورة، وأتاح للملحنين أن يجوبوا آفاقا شاسعة ما كانت لهم على بال لولا وجود هذا الصوت الذي حملهم بإمكاناته الباهرة إلى تلك الآفاق، وأعمال المرحوم محمد القصبجي والمرحوم زكريا أحمد والمرحوم رياض السنباطي تشهد بذلك، أم كلثوم قادت الملحنين في عصرها إلى الطريق الذي سارت فيه، ولعل ذلك يشبه إلى حد كبير ما قال إلياس سحاب عنها، فقد تبني نفس الفكرة تقريبا فقال: عظمة أم كلثوم قد فرضت نفسها في سوق الغناء العربي، لدرجة أن كل الملحنين الذين تعاملوا معها كانوا في ألحانهم يدورون في فلكها أكثر مما دار صوتها في فلك ألحانهم، فالظاهرة التي تبدو الآن واضحة أن هناك لونا كلثوميا في الغناء العربي، يوظف في خدمته عددا من الملحنين الذين لا شك في قيمتهم الذاتية، ولكنهم مع ذلك كانوا مع أم كلثوم جزءا من مدرستها الغنائية.
أم كلثوم الفصيحة التي لم تخطيء سوى مرتين
شهد الجميع لأم كلثوم بنطقها المثقف والفصيح، وجعلوا من فصاحتها وحسن مخارجها سلاحا اقتحمت به غمار الفن الغنائي حين أتت للقاهرة، وقد قلنا مرارا أن السبب في ذلك يرجع إلى البيئة التي نشأت وترعرت فيها أم كلثوم التي التحقت بالكتاب وحفظت القرآن الكريم وتعلمت اللغة العربية، لذلك تقول الدكتورة نعمات فؤاد أن أم كلثوم لم تخطيء طوال حياتها في القواعد النحوية سوى مرتين فقط والمرتين لا يلحظهما إلا متخصص، حتى أن أحد النقاد كان يسميها مطربة النحو والصرف، أما المرة الأولى فكانت في قصيدة سلو قلبي، حينما وصلت إلى بيت: فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثياب، فالفعل يغتر فعل الشرط وهو مجزوم، والقاعدة النحوية فتح المشدد للتخفيف في حالة الجزم، فصحة الكلمة يغتر بالسكون، فإذا أدغمت الراء فالجائز في الشعر كسرها لا ضمها، وفصاحتها يغترَ بالفتح، ولكن غنتها أم كلثوم بالضم، وقد نبهت لذلك فعدلتها عند تسجيل الاسطوانة، أما المرة الثانية فكانت في قصيدة قالو أحب القس سلامة في بيت:
كأنما لم يدر طعم الهوى، والحب إلا الرجل الفاجر، حيث غنت الحب بالضم، والصواب كسرها.
كانت أم كلثوم موهبة مكتملة الأركان، موهبة صوتية فذه، صوت مذهل ومرعب أحيانا، كانت شخصية ذكية ومثقفة ومطلعة، لا تغني هباء، ولا تنغم لمجرد التطريب، كانت تشعر بكل حرف تنطقه، كانت تختار كلمات أغنياتها، وكثيرا ما رفضت قصائد وأكثر منه في الألحان، صدقا كما قال رامي، كانت أم كلثوم تغني لنفسها قبل أن تغني للناس، كانت تغني كأنها تصلي.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال