الموسيقار محمد القصبجي..هل احتل المكانة التي يستحقها؟
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الرابعة عشر من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق من الحديث عن شخصية الموسيقار الكبير وقلنا أنه من الظلم أن يحكم على شخصيته بالنظر إليها من زاوية واحدة فقط، والمقصود زاوية المآسي والمتاعب التي أثرت عليه دون خلط بين ذلك وبين طبيعته الصامتة، واليوم ننتقل للحديث عن بعض النقاط الهامة من سيرة ذلك الملحن العبقري.
على الرغم من الدور المهم والفريد الذي لعبه المرحوم محمد القصبجي في الموسيقى العربية بشهادة الموسيقيين وأهل الفن والغناء، إلا أنه ومع الأسف لم يحتل المكانة التي يستحقها بين أساطين الموسيقى والتلحين بالمعنى الدارج للشهرة والصيت، وإن اختلف الأمر نخبويا، والحقيقة أن البعض قد فسر هذا الإقصاء أو كما يمكن أن نسميه بتواضعه الشديد وعدم اهتمامه بتسليط الأضواء عليه بقدر رغبته في الارتقاء الحقيقي بالموسيقى، هذا إلى جانب حبه للعزلة وعدم امتلاكه صوتا جميلا مثل بعض ملحني عصره كزكريا أحمد ورياض السنباطي، في حين ذهب البعض الآخر إلى القول بأن قبول المرحوم محمد القصبجي بأن يكون مجرد عوادا في فرقة أم كلثوم رغم مكانته تلك كان سببا هو الآخر في عدم تسليط الأضواء عليه والاهتمام بما قدمه إلا بعد وفاته.
المرحوم محمد القصبجي أستاذا ومعلما بحق:
كان المرحوم محمد القصبجي أستاذا وبحق لكبار عباقرة الموسيقى في القرن العشرين الذين أسسوا لنهضة الفن المسموع بمعناها الحديث، ونقصد بمعناها الحديث هنا ” المفهوم الجديد للموسيقى بعد تطورها عما كانت عليه في القرن التاسع عشر، ذلك أن ثمة تطويرا ونهضة موسيقية كبيرة قد حصلت في منتصف القرن التاسع عشر تحول على أثرها ألوانا كثيرة من الفن المسموع وقواعده وأصوله من كونها مجرد تراث على ورق في كتب قديمة إلى واقع تبلور في النهاية في صورة نهضة موسيقية كانت ركيزة للتطوير الجديد الذي نتحدث عنه بدخول مصر عهد الاسطوانات والتسجيلات”
فالمرحوم محمد القصبجي كان معلما فذا لكثير من هؤلاء الكبار كسلطانة الطرب منيرة المهدية التي لحن لها العديد من الألحان الرائعة، وكذلك الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب الذي رعاه فنيا لمدة خمس سنوات قبل أن يتبناه أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1924م، والذي آلت الأمور في النهاية لأن يقف هو كمايسترو في حفل أم كلثوم “في البروفات” في حين كان يجلس القصبجي على كرسيه بعوده، كذلك المرحوم رياض السنباطي الموسيقار الفذ الذي أحدث ثورته الكبيرة في ميدان تلحين القصيدة، وارتقى بفن أم كلثوم ارتقاء نقل به فنها من مكان إلى آخر أعلى بكثير قد تتلمذ هو الآخر لسنوات على يد المرحوم محمد القصبجي، على أن أنجب تلامذة المرحوم محمد القصبجي إنما كانت كوكب الشرق أم كلثوم، التي ارتبط بها كظلها منذ مجيئها إلى القاهرة عام 1923م، ومنحها وقته وفنه الذي ترجم إلى مجموعة كبيرة من أجمل الألحان المتطورة، وظل مصاحبا لها طوال مشوارها حتى بعد أن توقف عن التلحين لها بمونولوج رق الحبيب، وهذا بالطبع غير ألحانه البديعة التي قدمها للكثير من المطربين والمطربات مثل ليلى مراد وأسمهان ونور الهدى وكارم ومحمود وغيرهم.
إقرأ أيضًا…المهرجانات اكتساح .. اكتساح
إلا أن الأهم في هذا الصدد هو توضيح نقطة مهمة جدا للفصل بين الدور المنفرد لمحمد القصبجي والدور الذي شاركه فيه أصوات عصره من هؤلاء المطربين والمطربات، فأهمية المرحوم محمد القصبجي لم تقتصر على التلحين لهؤلاء المطربين والمطربات أو تعليم البعض الآخر منهم، ولكن يعود الفضل لمحمد القصبجي في تجديد الموسيقى العربية وتطويرها وإدخال لمسته الخاصة عليها، مثله في ذلك مثل المرحوم الشيخ سلامة حجازي والمرحوم الشيخ سيد درويش.
تقول الدكتورة رتيبة الحفني في كتابها عن المرحوم محمد القصبجي “محمد القصبجي الموسيقي العاشق” والذي سنفند بعض ما جاء فيه من أخطاء في حلقات قادمة:
بدأ القصبجي منذ عام 1917م ومن قبله الموسيقار الكبير المرحوم سلامة حجازي “الذي توفي في العام ذاته” في تجديد نكهة الغناء العربي وإدخال التعبير عليه، وتطوير اللوازم الموسيقية وجعلها جزءا مهما في البناء الموسيقي لا يمكن الاستغناء عنه، ومع تأثره بالموسيقى الغربية أدخل الهارمونيا والبوليفونيا على الموسيقى العربية دون تشويه لها وبما يتناسب معها، كما كان له الفضل في إرساء قواعد فن المونولوج العربي في الغناء والموسيقى وكان ذلك في العام 1928م حين لحن لكوكب الشرق مونولوج إن كنت أسامح وأنسى الأسية.
محمد القصبجي وأثر خالد في الموسيقى العربية:
الحقيقة أنه إذا أردنا أن نقوم بتلخيص ذلك الأثر الكبير الذي تركه الموسيقارالراحل محمد القصبجى في غيره من الفنانين سواء على مستوى التلحين أو التجديد والتطوير، وكذلك أثره في الموسيقى العربية ككل، فربما يكفى لذلك أن نؤكد على المعنى الذي نردده دوما والذي يجب أن يفهمه أبناء جيلي بل والأجيال القادمة، بل والذي يجب على رعاة الثقافة والموسيقى في مصر أن يتبنوا الاهتمام به والتأكيد عليه، وهو أن المرحوم محمد القصبجي كان معلما وأستاذا بحق للجيل اللاحق من الرواد، وأنه قدم للجمهور في القرن العشرين درتين لم يتكررا وأظن أنهما لن يتكررا وهما كوكب الشرق أم كلثوم وزهرة القرن العشرين أسمهان، وهو ما انبنى عليه لاحقا اجتهاد الموسيقيين الجدد فى اتباع مدرسته فى التلحين والموسيقى والعزف، ولا شك أن آثار الموسيقار الكبير محمد القصبجى قد بقيت فى موسيقاه التي يتدارسها الموسيقيين بل والمطربين والعازفين إلى يومنا هذا، كما استمرت تلك الآثار كذلك فى موسيقى تلامذته من جيل الكبار محدثة موجات متتالية من التطور الموسيقي، ومكملة لصورة النهضة الموسيقية الحقيقية التى شهدها القرن العشرين، ويبقى رصيد الموسيقار الكبير شاهدا على نهضة حقيقية شهدتها فترة مجده وذروة نشاطه قبل سنوات التعب والانعزال.
إن القيمة الحقيقية لموسيقى المرحوم محمد القصبجي إنما ينبغي أن تقدر بمعيارين أساسيين أحب وصفهما بالمعايير النخبوية التي يلحظها خاصة أهل الفن والسماع، أما المعيار الأول فهو أن موسيقى المرحوم محمد القصبجي وألحانه تظل محتفظة بجمالها وتعبيرها ورونقها حتى لو فرغت عن المحتوى المكتوب وبقيت موسيقى منفرده، فإذا ما اقترنت بها الكلمات أصبحت تلك الموسيقى وهذه الألحان معبرة تماما عن مضمون الكلام المكتوب والمشاعر التي قصد المؤلف إيصالها ويكفي لذلك أن تجرب ذلك المعيار مع أغانيه البديعة افرح يا قلبي لك نصيب تبلغ مناك ويا الحبيب أو يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان أو إمتى هاتعرف، أما المعيار الثاني فهو أن موسيقى المرحوم محمد القصبجي قد حملت بين طياتها إضافات وتطويرات استمرت حتى بعد وفاته وبقيت بصورتها كملامح أساسية ومناهج في الموسيقى ولذلك عد الموسيقار الكبير محمد القصبجي أحد كبار المجددين والمطورين في الموسيقى العربية في القرن العشرين.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال