قصيدة “وحدك” لمحمود درويش .. عن رؤية مختلفة للوحدة
عندما يسمع أحدنا كلمة الوحدة فغالبًا أول ما يخطر بباله هو الألم والمعاناة، وفى الغالب أيضًا عندما يقول أحدنا، أنا وحيد، فهو يقصد مثلًا أنه لا يملك أصدقاء يؤازرونه فى أوقاته الصعبة وفى أزماته. كلمة الوحدة بالطبع تحمل داخلها كل هذه المعانى التى ذكرناها ولعل الوحدة بهذه المعانى هى من أصعب الأشياء التى يمكن أن يعانى منها أى إنسان، ولكن إذا تفكرنا قليلًا فربما نجد للوحدة فائدة وربما يمكن أن نرى الوحدة بشكل مغاير كما رآها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.
قصيدة “وحدك” للشاعر الكبير محمود درويش هى إحدى قصائد ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد” الذى صدر عام 2003م، يخاطب درويش فى القصيدة شخصًا يجلس بمفرده فى أحد المقاهى، ويبدأ أولًا بوصفه للمكان الذى يجلس فيه هذا الشخص وبوصف ما يراه حوله فيقول:
“مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني ..
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرى إحدى صفات الغيب تلك
ترى ولكن لا تُرى”
بكلمات بسيطة أدخلنا درويش فى جو القصيدة بوصفه المكان الذى يجلس فيه هذا الشخص وبوصفه لحالته مرة بالتصريح عندما أخبرنا أنه يجلس وحيدًا مع جريدته ومرة بالتشبيه عندما شبهه بطيف خفى يري الناس ولا يراه أحد. هكذا أدخلنا محمود درويش للقصيدة وجعلنا نشعر بوحدة هذا الشخص ولكنه هنا لم ير الوحدة ألماً ومعاناة إنما رآها حرية فقال:
“كم أنت حر أيها المنسي فى المقهى
فلا أحد يرى أثر الفراشة فيك
لا أحد يحملق فى ثيابك أو يدقق
فى ضبابك إن نظرت إلى فتاة
وانكسرت أمامها
كم أنت حر فى إدارة شأنك الشخصي
فى هذا الزحام بلا رقيب منك
أو من قارئ
فأصنع بنفسك ما تشاء
اخلع قميصك أو حذاءك إن أردت
فأنت منسي وحر فى خيالك
ليس لاسمك أو لوجهك ها هنا عمل ضرورى
تكون كما تكون
فلا صديق ولا عدو هنا يراقب ذكرياتك”
لم ير درويش الوحدة كما اعتدنا أن نراها، ألما ومعاناة، بل كان له تصور آخر ورؤية مغايرة للوحدة وللاختلاء بالنفس فقد رأى درويش أن الوحدة حرية؛ تستطيع عندما تنفرد بنفسك أن تفعل ما تشاء دون رقابة من أحد، تستطيع حتى أن تخلع ملابسك إن أردت ذلك، كما تستطيع التصرف دون أن تخشي رقابة الناس لك ودون أن تخشي رأيهم، تستطيع حتى أن تنكسر دون أن يراك أحد ودون أن تشغل بالك بالتفكير فيما سيقوله الآخرون. هكذا رأى درويش الوحدة؛ رآها حرية كما رآها أيضًا ارتقاء وسموا بالنفس وترفع عن إساءة من أساء فهمك وترفع عن أحقاد البعض تجاهك فيقول:
“فالتمس عذرًا لمن تركتك في المقهى
لأنك لم تلاحظ قَصَّة الشَّعر الجديدة
والفراشات التي رقصت علي غمازتيها
والتمس عذراً لمن طلب اغتيالك،
ذات يوم، لا لشيء… بل لأنك لم
تمت يوم ارتطمت بنجمة.. وكتبت
أولى الأغنيات بحبرها”
وهنا يطلب درويش من الشخص أو الطيف الخفى الذى يخاطبة أن يسمو بنفسه ويترفع وأن يلتمس العذر ويغفر الإساءة لمن أساء فهمه كتلك الفتاة التى يتحدث عنها، كما يطلب منه أن يلتمس العذر أيضًا لمن يُكِّن له الضغينة والحقد لأنه استطاع أن يقاوم انكساراته ومِحَنَه ويحولها إلى أغنيات. وهنا يختتم درويش كلامه مقرنًا وحدته بالحرية تأكيدًا على ما جاء به فى القصيدة فيقول:
“مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيّا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي،ولا أحدٌ يفكر باغتيالك
كم أنت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك”