“ما ترويه المقابر”..هاجس الموت في قبر “حليم” الملون
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في الأيام الأخيرة من حياة عبد الحليم سيطر هاجس الموت عليه تماما ما دفعه إلى بناء مقبرته في منطقة البساتين، كان عبد الحليم يدرك أن صراعه مع ( البلهارسیا ) ، وآلام المعدة والنزف المستمر هي معركة خاسرة.
مقبرة حليم “الملونة” في “البساتين” عكس الأيام القاتمة التي مر بها في أيامه الأخيرة، خاصة صراعه مع المرض اللعين وقتها “البلهارسيا”، فقد كان “حليم” أشد ما يخشاه أن يعطله النزيف الذي يتسبب فيه هذا المرض أن يوقفه عن الغناء، أو يضطره للاعتزال.
سافر “حليم” إلى أمريكا بحثًا عن الحل، لم يكن أمامه سوى إجراء عملية جراحية تجرى في “لندن” بل في القاهرة، يمكنها أن توقف النزيف اللعين، وتتلخص العملية حسبما جاء في كتاب “حليم وأنا” لهشام عيسى، في إيصال الوريد القادم من الأمعاء بالوريد الرئيسي الذاهب إلى القلب دون المرور على الكبد، وكان يمكن أن تبعد عنه الخطر، ولكن الثمن كان فادحًا بالنسبة له، فهي تسبب مرور مادة الأمونيا ومواد سامة إلى المخ مباشرة وتسبب للمريض نوبات من الغياب عن الإدراك والوعي عما حوله، وقد رفضها حليم تمامًا عندما عرف أنها سوف تكون عائقًا أمام فنه.
علاقة “حليم” بالموت بدأت مبكرًا، عندما فقد والدته، فقد أرضعته أكثر من ثلاثمائة سيدة ، لدرجة أن أخيه حتى “إسماعيل” أخبره ذات ليلة أن عليه التدقيق جيدا في اختيار شريكة حياته، حتى لا تكون أختا له في الرضاعة، وبينما تقول له أي واحدة يقابلها «أنا أمك، تعال»، يقول هو في نفسه: “أعرف أن أمي ماتت”.
في مذكراته المنشورة بمجلة “صباح الخير” منتصف عام 1973، جاء ذكر الموت في حياة “حليم”، عندما حكي عن حبيبته ووصفها قائلًا:”ذات العيون الزرقاء التي اكتشفت من خلال حبي لها أن للحياة معنى وأن الشمس من حقها أن تشرق كل صباح وأن الغروب من حقه أن يأتي وأن الإنسان من حقه أن يتنفس، كانت جميلة للغاية وأشتاق إليها الآن وعاشت قصة حبي لها خمس سنوات.. أقسم بالله العظيم يمينا أسأل عنه يوم القيامة أنني لم لكن أحب واحدة من النساء مثلما أحببتها وليكن اسمها ليلى، وليلى ليس اسمها لأن الاسم يجب أن يظل سرًا، هي الآن ذكرى، لا أعرف كيف تتحول الضحكة واللمسة والأمل والحلم إلى ذكرى، إنني ما رأيت في حياتي عيونا في مثل جمال عينيها، عيونها زرقاء رمادية بنفسجية لا أدرى لكنى كنت أعرف أن عيونها ملونة بالبهجة والأسى فى آن واحد .. أقسم بالله العظيم أنني كنت أرى الغروب فجرا وأرى الفجر نورا وأرى كل لحظة من اليوم لحظة فى الحب كانت ليلى هى السبب فى كل ذلك كأنني ولدت يتيما حتى أولد فى عينيها لتصبح أمي”.
وقال “العندليب”، أن أول مرة رآها فيها كانت في لندن أثناء تسوقه في “هارولدز” وكانت بصحبة إحدى صديقاتها وتسمرت قدمه ،عندما رآها ثم انصرفت وعلى شاطئ ميامي كانت الصدفة حيث رآها للمرة الثانية ولم يصدق عيناه ودار بينهما حديث عابر ليكتشف أنها متزوجة من رجل أعمال ولديها ولدان لكنها لم تكن سعيدة وكانت منفصلة عنه ومفاوضات الطلاق دائرة بينهم.
اعترفت حبيبة “حليم” بأنها تشعر أن عمرها في الحياة قصير، لكن أصر على إتمام العلاقة خاصة وأن علاقته بزوجها بدأت تسوء، وعثر على شقة بدأ يؤسسها معها، اختارت هي السجاد واللوحات والمكتب وحجرة المعيشة والنوم، لكن أزمة الطلاق كان من تفاصيلها أن زوج هذه الحبيبة يستطيع أن يطلب حضانة أبنائه، ولم تستطع هي أن تعيش بدونهما، مما عكر صفو العلاقة، وغنى “حليم” وقتها:”بتلوموني ليه”.
لم يجد “العندليب” وقتها بدًا أو مفر، سوى أن ينصحها أن تكمل علاقتها مع زوجها من أجل أولادها، قال:” :”مادام مش قادرة تسيبي الأولاد يبقى تروحي بيتك كانت عيونها تحت جفوني كلما أغمضت عيوني رأيتها، وأخذها الزوج وسافر، كنت أحس أن نزيف معدتي، هو نزيف غير دائم يهون أمره دائما أمام نزيف شوقي إليها”.
وبعدما حصلت الزوجة على الطلاق، التقت بالفنان الراحل مرة أخرى، لكن كانت الكارثة قد وقعت، فسقطت أمامه ليكتشف أنها قد فقدت البصر، بعدما تسلل فيروسا خطيرًا إلى المخ.
في الوقت الذي كانت فيه “ديدي” أو “ليلى” حسبما عرّفها “حليم” في مذكراته، تقبع في المستشفى للعلاج، وصلت إليها الشائعات بوجود علاقة بينه وبين الفنانة سعاد حسني، نصحته بأن يكمل هذه العلاقة التي قد تسعده في حياته، لكنه رفض كلامها،
يروي الفنان الراحل في مذكراته مشهد الموت، يقول:” أحيانا أغمض عيوني فأجدها تضحك أحيانا أغمض عيوني فأتذكر لمسة يدها أحيانا أراها بعيون مفتوحة وهى تقول لى” خلى بالك من صحتك الذكريات والأحلام والعذاب ولابد من ابتسامة على الوجه والابتسامة جرح .. جاء الموت .. لماذا تموت حبيبتي سؤل لا إجابة له أنا أمام الموت أصدق حكمة السماء الخالدة .. ندخل الدنيا بلا اختيار نموت بلا اختيار بين الميلاد والموت نختار نجحت في اختيار طريقي كمغن لم أنجح فى اختيار شريكة عمري لأن الموت تدخل.. تطاردني دائما كلماتها “أنا حاموت صغيرة”.
أما ما يخبرنا به قبر “حليم” الملون في البساتين، هذه المرة، أنه زيارات الفنان قليلة للغاية، حسبما أخبرنا “حارس” المقبرة، ولا تزيد عن الأهل والأقارب في أوقات المناسبات.
وحكي “حارس المقبرة”، أن أهل “العندليب الأسمر”، أضافوا الزخارف والألوان منذ وقت قريب على الواجهة والمدخل، وهو ما لم يحدث في أية مقبرة أخرى لبقية الفنانين المجاورين.
وقبل أن يتم زخرفة قبر “العندليب”، حدثت أزمة المياة الجوفية التي هددت المقبرة، حسبما حكت “ابنة شقيقة العندليب” في حوارات تلفزيونية وصحفية عديدة، أنها كانت رفقة محمد شبانة ابن شقيق “حليم”، وأحد أعضاء جمعية “العندليب”، وشاهدوا جثمان “العندليب” كما هو على حاله، لم يتغير، ووصفته بأنه “أبيضًا، ووجه كأنه نائم وشديد البياض”.
لكن الأزمة كانت في أن المياه الجوفية كانت قد تسربت إلى القبور المحيطة، وبدأ أقارب الموتى ينقلون رفات زويهم، فخشيت على قبر “حليم”، فاستدعت لجنة من جامعة القاهرة على نفقتها الخاصة، لاختبار الأرض التي يرقد فيها الجثمان، واتفقوا على نقل الرفات إلى حجرة خالية بالقبر، لحين انتهاء عملية اختبار الأرض.
يجاور “حليم” في قبره، بعض من أهله وأقاربه، فالمقبرة تحتوى على أربع حجرات، اثنين منها للرجال، والأخرتين للنساء، منها مقبرة “علية” شقيقة “حليم”.
بعد انتهاء عملية اختبار الأرض، أعيدت رفات “حليم” إلى مكانها الأول.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال