تاريخ نفي عمر مكرم .. قصة مأساة لم تتوقف نتائجها حتى الآن ٣٠٠ مليون جنيه لم يحصل عليها ورثته حتى ٢٠٢١
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
انتهى تاريخ نفي عمر مكرم فعليًا في شهر إبريل سنة 1822 م بموته، لكن رحيله عن الدنيا طَوَّر شكل المأساة لترثها عائلته ثم تدخل في مشاكل مع وزارة الأوقاف والتعليم.
تاريخ نفي عمر مكرم .. المنفى الأول والثاني
بدأ طريق استتباب الأمر لمحمد علي باشا بالقضاء على الزعامة الشعبية رأسًا متمثلاً في عمر مكرم بسبب خلافات بين الباشا ونقيب الأشراف على فرض الضرائب، فأصدر الباشا أمرًا بنفي عمر مكرم خارج القاهرة سنة 1809 م إلى دمياط.
كانت سنوات عمر مكرم في منفاه الأول تحت حراسة مشددة لا يُسمح له فيها بالاجتماع مع الشعب، فأراد أن يجد لنفسه شيئًا يسليه فقام ببناء خان كـ فندق للتجار الذين اعتادوا زيارة دمياط من الشام والأناضول.
كان قاضي القضاة يزور دمياط في إبريل سنة 1812 م والتقى عمر مكرم وطلب منه أن يفاتح محمد علي في نقله من دمياط إلى طنطا فاستجاب له ورحل إلى طنطا وظل بها وكان حنينه إلى القاهرة يأتيه بداخله.
العودة إلى القاهرة من المنفى الثاني
جاء العام 1818 حاملاً في طياته انتصارات إبراهيم باشا على الوهابية وسقوط عاصمتهم الدرعية في نجد واحتفلت القاهرة 7 ليالي متواصلة، فأرسل عمر مكرم حفيده صالح إلى محمد علي باشا الذي كان يقيم في الإسكندرية فقابله بالترحاب وسأله عن حال جده وأعاد عليه السؤال عدة مرات والحفيد يقول له إنه بخير ويدعو له، فسأله الباشا هل جده يريد أي شيء، فقال له الحفيد لا يطلب غير البقاء لحضرتكم.
لم يقتنع محمد علي باشا بردود الحفيد وشعر أن السيد صالح يجد في نفسه حرجًا، فأرسل له عثمان السلانكي مبعوثًا يلاطف حفيد عمر مكرم ويستدرجه في الكلام حتى يفهم، فأفصح له عن رغبة جده في أداء فريضة الحج، فلما علم محمد علي باشا بذلك أجابه إلى تحقيق رغبته وأذن له فى العودة إلى القاهرة والاقامة فى منزله حتى حلول موسم الحج وقال الباشا حينها «أنا لا أتركه في الغربة هذه المدة إلا خوفا من الفتنة والآن لم يبق شيء من ذلك فإنه ابي وبين وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف”، وكتب له خطابًا وسلمه إلى حفيده والكتخدا كمترجم».
أورد الجبرتي في كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار نص خطاب محمد علي باشا فكان:-
«إلى مظهر الشمائل سنيها، حميد الشؤون وسميها، سلالة بيت المجد الأكرم والدنا السيد عمر مكرم، دام شأنه أما بعد.
فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف تهنئةً بما أنعم الله علينا وفرحًا بمواهب تأييده لدينا فكان ذلك مزيدًا في السرور ومستديمًا لحمد الشكور ومجلبةً لثناكم وإعلانا بنيل مناكم جُزيتم حسن الثناء مع كمال الوقار ونيل المنى.
هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذن بالحج إلى البيت الحرام وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام، للرغبة في ذلك والترجي لما هنالك، وقد أذنَّاكم في هذا المرام تقربًا لذي الجلال والاكرام، ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام، فلا تدعوا الابتهال ولا الدعاء لنا بالقال والحال، كما هو الظن في الطاهرين والمأمول من الأصفياء المقبولين، والواصل لك جواب منا خطابًا إلى كتخدائنا ولكم الاجلال والاحترام مع جزيل الثناء والسلام».
وصل عمر مكرم إلى القاهرة في يوم المولد النبوي لعام 1234 هجري الموافق 9 يناير سنة 1819 ، وزار مسجد الإمام الشافعي ثم ذهب إلى القلعة وقابل وكيل محمد علي باشا، وكان الشعراء في انتظاره وينشدون قصائده، أما الشعب فقد ازدحم لاستقباله، ورغم فرحة عمر مكرم بذلك الأمر لكنه آثر الابتعاد عن الجماهير اتقاءًا لغضب الباشا.
يقول الجبرتي عن ذلك «استمر ازدحام الناس أيام ثم امتنع عن الجلوس في المجلس العام نهارا واعتكف بحجرته الخاصة فلا يجتمع به إلا بعض من يريده من الافراد فانكف الكثير عن الترداد وذلك من حسن الرأي»؛ ولم يذهب عمر مكرم إلى الحج لأسباب صحية لها صلة بالشيخوخة، ولم يقرر محمد علي باشا إبعاده عنها.
أزمة الفكهاني والتعدي على شيخ الأزهر
حتى جاء شهر مارس سنة 1822 م وبدأت أتون حرب استقلال اليونان ضد الدولة العثمانية، فطلب الباب العالي من محمد علي باشا المعاونة.
استجاب الباشا لطلب الدولة العثمانية فجهز حملة بقيادة حسن باشا للتوجه إلى جزيرة كريت معقل الثورة ضد العثمانيين، ثم قرر فرض ضريبة على العقارات المبنية لقيت سخطًا شعبيًا عنيفًا ومظاهرة خطيرة.
بدأت أزمة الضريبة عندما ذهب رئيس لجنة الضريبة في 29 مارس 1822 م إلى حي باب الشعرية وطلب من أحد تجار الفاكهة أن يدله على المنازل التي يملكها ليعاينها ويقوم بتقدير الضريبة، ولم يتحمل التاجر ذلك فأمسك بالنبوت وضربهم جميعًا ثم تجمع الناس حوله وتظاهروا ضد محمد علي باشا.
بالقرب من تلك المشادة كان منزل الشيخ محمد العروسي شيخ الأزهر فاتجه الناس له لكي يعقد اجتماعًا في الأزهر ويبلغ محمد علي باشا بالرفض، لكن العروسي رفض في البداية، ثم آثر ترك منزله وتوجه بصحبة الشيخ الأمير إلى الجامع الأزهر، ومن باب الشعرية حتى حي الأزهر تعرض إلى السباب من الشعب والتعدي عليه بالضرب مع صديقه الشيخ الأمير.
استطاع جند محمد علي باشا أن يهربوا الشيخ محمد العروسي والشيخ محمد الأمير من الأزهر إلى القاهرة، وتفرغ عساكره لوأد تلك التظاهرة قبل أن يذهبوا إلى عمر مكرم، بعدما أوعز رجال بلاط محمد علي باشا بأن عمر مكرم هو الداعي لتلك المظاهرة.
النفي الثالث إلى طنطا
كان عمر مكرم في منزله بجانب مسجد أثر النبي في مصر القديمة ولم يشترك في التظاهرة ورغم ذلك صدر قرار بنفيه إلى طنطا في ظهيرة 5 إبريل سنة 1822 م، وتم تنفيذه في مساء نفس اليوم.
يعلق فيلكس مانجان على ذلك بقوله «أراد الوالي إقصاء هذا الشيخ الطاعن في السن لأنه اعتقد أنه هو الذي حرك الثورة الشعبية التي اندلعت في 29 مارس 1822 م، إن هذا الرجل وهو على حافة القبر قد اختار له مسكنًا ليعيش في هدوء بعيدًا عن الجماهير وصخب المسائل العامة ولم يكن يغادر منزله».
لم يدم عمر مكرم في منفاه طويلاً، فقد مات فيه يوم 13 مايو سنة 1822 م ودُفِن في القاهرة بصحراء المماليك على طريق صلاح سالم حاليًا.
ميراث عمر مكرم يتوج المأساة
ترك عمر مكرم عائلة مكونة من 5 أولاد و 4 بنات، ومنهم صار مالا يقل عن 3 آلاف حفيد لهم ميراث يُقَدَّر بـ 300 مليون هي حصيلة أوقاف عمر مكرم وبعد سنوات نفيه موزعين على 6 وقفيات هي
الوقفية الأولى / بتاريخ 15 أبريل 1796 م
مسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم 135/3 أهلي وتشتمل على :-
ـ كامل أرض وبناء العقار رقم 1 حارة حمدي قسم الظاهر
ـ كامل أرض وبناء العقار رقم 1 عطفة علي قسم الجمالية.
ـ كامل أرض وبناء الدكان رقم 9 حارة الشحامين بالصاغة قسم الجمالية.
ـ عدد 12 قيراطًا من 24 قيراطًا في كامل أرض وبناء العقار رقم 8 حمام الجمعة ببولاق.
ـ عدد 69 عقارًا (أرض وبناء) في شوارع ودروب وحارات مدينة أسيوط، مساحاتها مختلفة.
ـ عدد 12 قطعة أرض فضاء بمساحات مختلفة بنواح متعددة بمدينة أسيوط، مساحاتها مختلفة.
ـ عدد 2 قطعة أرض خربة (القطعة الأولى برقم 16 ومساحتها 23.20 مترًا مربعًا بعطفة العمارة الغربية، والقطعة الثانية برقم 16 ومساحتها 42.30 متراً مربعاً بعطفة العمارة الشرقية).
ـ قيراط واحد وسدس قيراط من إجمالي أربعة وعشرين قيراطًا على الشيوع في كامل الرزقة الأحباسية في أراضي ناحية قرية أسيوط وقراها الثلاث وهي: درنكة، وريضة، وشطب.
ـ زقة طين سواد صالحة للزراعة، كائنة بأراضي ناحية الزاوية بظاهر أسيوط من الجهة القبلية، وعبرتها عشرة قراريط من إجمالي أربعة وعشرين قيراطًا على الشيوع في كامل أراضي الناحية المذكورة
ـ جميع اثنى عشر قيراطًا من إجمالي أربعة وعشرين قيراطًا على الشيوع في كامل منفعة الخلو والسكنى والانتفاع، بكامل التسعة أماكن الصغار وقاعة الحياكة بمدينة أسيوط على أرض عمارة الجلاية.
– جميع المنزل الصغير الذي علو الحوض المعد لشرب الدواب الكائن بمدينة أسيوط، المشتمل ذلك على مرافق وحقوق.
الوقفية الثانية بتاريخ 16 يناير 1820 م
مسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم 153/3 أهلي/ب وتشتمل على :-
«3 أماكن مبنية، وربع وكالة تجارية، وربع سكني، و 7 منازل سكنية، ونصف ريع ستة حوانيت، وتخت لاستخراج الزيوت، ومعصرة زيتون، ومرتبات غلال وعلوفة عثمانية».
الوقفية الثالثة / بتاريخ 31 ديسمبر 1819 م و 27 مايو 1820 م
مسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم 2585/35 قديم وتشتمل على :-
«جميع المكان الموجود بخط اسطبل الكارم بظاهر درب الجوهرية والجامع الأزهر، وجميع ملك البناء والخلو والسكنى والانتفاع والإذن بالعمارة بكامل المكان الكائن بمصر بخط الأزهر بجوار درب الجوهرية المذكورة، الجاري أصله في وقف شرف الدين أبي السعادات محمد المسلمي، وجميع ملك قطعة الأرض الكائنة بمصر بالقرب من مطبخ الشورفية».
الوقفية الرابعة / بتاريخ 25 يوليو 1820 م
مسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم 1837/32 قديم، وتشتمل على :-
«جميع القاعة ومنافعها والحانوتين، والحاصلين، والربع علو ذلك بحارة اليهود القرائين بالشارع المسلوك بجهة درب الحبالة بمصر».
الوقفية الخامسة بتاريخ 7 أبريل 1821 م
مسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم 1822/3 قديم
الوقفية السادسة بتاريخ 19 يوليو 1823
مسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم 1239/73 قديم.
أكبر أحفاد عمر مكرم المهندس صالح بيومي مكرم أحد المهندسين الذين أشرفوا على تصاميم برج القاهرة، واللواء محمد صالح مكرم الطيار السابق بالقوات الجوية المصرية وأحد الذين شاركوا في حرب أكتوبر، والمهندس عبد المنعم صالح بيومي، رئيس جهاز التفتيش الفنى على أعمال البناء بوزارة الإسكان.
بدأت قضية ميراث عمر مكرم في 24 فبراير سنة 1952 بين أحفاد عمر مكرم والدولة، فوزارة الأوقاف تشير إلى أن ميراث عمر مكرم هو وقف خيري من حق الدولة لا الورثة، بينما الورثة قالوا أن لديهم وثائق تفيد بأن ميراث عمر مكرم به وقف خيري لا يحق للورثة المطالبة به، لكن فيه وقف أهلي يحق لهم.
قضائيًا فإن المسألة محسومة لعائلة عمر مكرم، لكنها طالت وألقت بظلالها على أفراد العائلة نفسها، فمثلاً قام محمد توفيق أحمد عمر مكرم بمهاجمة عمته ومحاولة خنقها للاستيلاء على الخِتْم الذي يخصها وصدر قرار بحبسه في 15 إبريل 1964 م.
في 15 مايو عام 1966 م صدر من المحكمة الابتدائية في شبرا يقضي بأن وقف السيد عمر مكرم نقيب الأشراف وقف خيرى بنسبة 2.6 % والباقي وقف أهلي بنسبة 97.6 %، ثم تقرر تعيين حارسين قضائيين من الورثة لإدارة الوقف هما محمد عزت مكرم وصالح غالب، ونتيجةً لسوء إدارتهما تقرر تغييرهما وتعيين صالح بيومي مكرم وجمال الدين مدكور بدلاً منهما.
مات صالح بيومي مكرم في السبعينيات، وتوفي المخرج جمال مدكور في الثمانينيات، لتقوم الوزارة بعد ذلك بإدارة أوقاف عمر مكرم دون الرجوع لأي أحد، وذلك لأنها أوقاف خيرية لا حق للورثة فيها، فقام أفراد العائلة برفع قضية ضد وزارة الأوقاف لإثبات حقهم.
صدر من مجلس الدولة في العام 1995 حكمًا بأحقية ورثة عمر مكرم في أوقافه لكن وزير الأوقاف لم ينفذ الحكم، ثم رفع الورثة شكاوى لكافة الجهات من عام 2000 م وبعدها بـ 7 سنوات، بدأت القضايا بين الورثة ووزارة التعليم على العقار 45 في شارع بن الرشيد بجزيرة بدران في شبرا، وحكم مجلس الدولة في الدعوى رقم 18710 بتاريخ 20 مايو العام 2007 وقضى بتسليم الورثة البناية لكن الوزارة لم تنفذ الحكم.
ظلت المناوشات القانونية بين مؤسسات الدولة وعائلة عمر مكرم حتى يوم 19 يناير سنة 2016 بصدور حكم من القضاء الإداري بات وقاطع بإلزام وزارة الأوقاف بتسليم 97 % من أملاك عمر مكرم إلى أحفاده، وهو مالم يتم تنفيذه حتى الآن.
المراجع
- عجائب الآثار في التراجم والأخبار لـ الجبرتي
- تاريخ مصر في عهد محمد علي لـ فيلكس مانجان
- عصر محمد علي باشا لـ عبدالرحمن الرافعي
- سيرة عمر مكرم لـ محمد فريد أبو حديد
- عمر مكرم بطل المقاومة الشعبية لـ عبدالعزيز محمد الشناوي
- جريدة الأهرام ـ عدد 16 إبريل 1964 م
- جريدة الأحرار – عدد 9 يونيو 1999 م
- أوقاف نقيب الأشراف: السيد «عمر مكرم» لـ إبراهيم بيومي غالب
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال