“بروباجندا موت العرسان” .. كيف تستغل المواقع الإلكترونية حزن المصريين المقدس؟
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
“الموت أمر بغيض. يجلب الدموع والأحزان. يخطف الرجل من بيته ويلقى به فى رمال الصحراء. لن تعود إلى الأرض أو ترى الشمس”
هكذا كتبت لنا أنامل أجدادنا من مصر القديمة ، عن الموت وجلاله ، وكيف كان الموت بأهمية الحياة وعلى نقيضها في نفس الوقت .. كيف كان للموت حساسية في التناول ، والكلام عن حضرته وقوته وقدرته على صنع الحدث في آن واحد ، كيف كان للمرأة الدور الرئيسي في السيطرة وإعمال طقوس الموت وشق القلب والملابس معًا .. كيف أن الموت لم يكن أمرًا يمكن التلاعب بمصطلحاته لصنع حالة من الحزن الزائف .. حيث كان الحزن وقتها حقيقي جدًا .
عندنا عادة صحفية مصرية ، وهي في الحقيقية عربية وعالمية أيضًا ، لكن الأزمة أنها أصبحت وسيلة محلية سريعة لصنع مشاهدات مكثفة بغض النظر عن الأعراض الجانبية لتناول مثل هذه الحالات بشكل متكرر ، بل أصبحت جزء أصيل من حياتنا اليومية .. وهي نقل أخبار العرسان الذين يتوفاهم الله ليلة عرسهم ، أو قبلها أو بعدها بساعات ، وتجد طبعًا العناوين المتكررة :” بمكياجها لسه .. وفاة عروس القرية كذا ” .. “كتب كتابه وانقلبت به سيارته” .. خالة العروسة : ” كانت ترقص في الحنة وسقطت ميتة” .. وهكذا عناوين تمزق القلب تمزيقًا ، وتفجع القارئ أكثر ما تحزنه .. والحقيقة أن من يستخدم تلك الحوادث للتناول في الأساس ، لا يخرج عن نوعين ، إما لا يدرك مدى خطورة ما يكتبه ، أو يدركه تمامًا ويفتقد المبادئ التي تجبره على ترشيد استخدامها .
الموت والفرح ، نقيضين قادران على صنع خبر “محترم” صحفيًا ، قادر على صنع التفاعل لدى أي شريحة بشرية ، لابد أن نشفق على العروسين الذين كانا في مقتبل حياة جديدة ولديهم الأمل الكبير أن تكون سعيدة ومبهجة ، لكن اللص البغيض ، هادم اللذات ، الموت الذي جاء وسرقهم من الحياة ، وطبعًا تتضارب الأقوال حول ما إذا كان السخان الكهربائي هو السبب ، أو أن باقات الورد الكثيرة شفطت الأسجين من غرفة النوم فأردتهما قتيلين ، أو أن إحدى الحقودات الريفيات صنعت لهما عمل عند أحد الدجالين لقصف الرقبة والموت وقلة الحظ .. وتُفتح ماسورة التعليقات التي يكون أغلبها من ربّات المنازل الذين يجدون الوقت غالبًا للتعاطي مع مثل هذه الحوادث .
التأصيل والاستغلال في الحزن
الناس يعشقون السلبية ، وبالأخص بطبيعة المجتمع المصري يشك كل الشك في نفسه إذا ما جاءه الفرح ، حيث يقول الناس عند الضحك ” خير اللهم اجعله خير” ، ومفادها الشك فيما هو قادم بعد الضحك والدعاء لله أن يخفف من وطأته .. وهي ليست بالعادة المستحدثة ، حيث يخبرنا الدكتور حمدي سليمان في مقاله : أنسنة الموت في الثقافة المصرية ، وبالأخص في فقرة ” حارسة الحزن في الثقافة المصرية ” التالي : “تقدم لنا الثقافة الشعبية المصرية على امتداد تاريخها المرأة باعتبارها حاضنة الحياة وذاكرة المجتمع، كما أنها تقدم لنا المرأة أيضا باعتبارها منتجة الحزن وحارسته, خاصة في البيئات التقليدية، ذات الخصوصية الثقافية، التي تقدس الأحزان وتعتبر طقوسها جزءًا من مفردات الحياة اليومية, فالمرأة في ثقافتنا تؤرخ لحياتها بالولادة والموت معا, فحالات الميلاد تأتى لديها مشابهة لحالات الموت من حيث الأهمية، وربما تفوق حالة الفقد حالة الميلاد، حيث لا يمكن تعويض المفقود، وتصبح الحياة بدونه أكثر قسوة، وتفقد معنها بل تكاد إن تشبه الموت في بعض الأحيان.. والمتأمل في الثقافة المصرية عبر تاريخها يكتشف أنه لاتوجد اختلافات كثيرة في طقوس الموت عند المصريين القدماء عن ماهى عليه اليوم, خاصة في صعيد مصر باستثناء عملية تزويد الميت بالطعام والشراب وأشياء أخرى تختلف حسب المكانة الاجتماعية للمتوفى، أما باقي مراحل الطقوس فمتشابه إلى حد كبير، بداية من الإعلان عن الوفاة إلى طقوس عملية الدفن والعزاء والحداد.”
لكن استغلال ذلك في حقيقته لا يرجع فقط لجذور الموت المتأصلة داخل المرأة المصرية ، بل يرجع للشكل العام للتناول الصحفي للغم والنكد وقلة القيمة ، حيث المساحة المتوفرة والمتابعات الدائمة ، بينما تستخدم إسلوبًا مغايرًا تمامًا إن كانت الأخبار إيجابية ، حيث التلاعب بالألفاظ لجعل العنوان مثيرًا للسخرية أكثر منه إيجابيًا .. حتى تكتل الحزن في النفوس وأصبح الداعي للإيجابية كالداعي إلى الجنون ، هو استغلال نفسي بحت من الميديا للنفس ، والكحت فيها حتى تنبث دمًا .. وهكذا تلعب الميديا بأخبار العرسان الذين يموتون ليلة الزفاف ، فلا حزن حقيقي ولا يحزنون ، هي فقط صورة حراقة للحزن ، وصورة جيدة للمتاجرة .
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال