هوامش القراءة (1): لغة فاطمة قنديل العارية
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد
هوامش القراءة: باب غير دوري، لا يعني بتقديم عرض للكتاب أو قراءة نقدية، لكن بتدوين مقتطفات من الهوامش التي سجلتها أثناء القراءة وما أثارته لدي من هواجس وأفكار وخيالات وقد لا تتسم بالدقة أو تكون بالضرورة مرتبطة بمتن الكتاب.
—
بلغة عارية، كما أسمتها فاطمة قنديل في سيرتها الذاتية “أقفاص فارغة”، تضع قارئها الذي توحد مع النص وأطبق كف روحه على مثل هذا ” الألم” في مأزق، حيث يبدو كل تعقيب على الكتاب مبتذل، فلا يملك إلا كلمات على غرار ” مدهش، مؤلم، بديع” وهي كلمات معبرة حقا، لكنها تحيل إلى الفعل الوحيد الذي يليق عقب الانتهاء من القراءة: الصمت.
اقرأ أيضًا
تحية سريعة إلى صاحب “هندسة العالم”
فاطمة نفسها، تحذرنا كمن يلقي لعنة من نقل الاقتباسات عن الكتاب، كأن ذلك ينتقص من قدر ما أفصحت عنه، تخبرنا أنها لم تكتب النص إلا لنفسها، كي تلفظ جثة عفنة من داخلها، فلا تختلط أنفاس تلك الجثة بأنفاس حياتها، وفي الوقت ذاته، تعي أن لابد من قارئ، بل تتخيله في لحظة الكتابة على الطرف الآخر من المكتب، يلتقط كلمة بكلمة كشاهد. شعرة دقيقة بين أنها تُريد لحكايتها التي طالما امتلكتها أينما حلت أن تُسمع، وبأن تحكيها إلى عدم لأن وجود القارئ قد يكون تهديدا باستكمال مسيرة الخذلان الذي تعرضت له على مدار سيرتها.
تدرك فاطمة استحالة الشيئين معا، لا فرار من الاتكاء على القارئ الذي لا تعرفه حتى لو حاولت تخيل هيئته وصفاته للاطمئنان إليه، إنها لا تملك سوى إخافته مرة إذا ما اقتبس عنها، ومرة بذكر لعنة أشد تؤمن بها عن أن لا هزل في شيئين: المرض والموت، وقدرتنا المخيفة على استدعائهما في أكثر لحظاتنا هشاشة، ضد من نحبهم بالتحديد إذا ما شعرنا بهم كعبء أو بتخليهم عنا، أي رجفة شعرت بها ولم تغادرني منذ أن قرأت ذلك المقطع الذي تسري فكرته في كل عروق النص. إن قرر المواصلة، أي أن يتحمل رغم ذلك عبء ما أفصحت عنه، فهو يستحق إذن تمنحه أنسها وأن تأنس له.
اللغة العارية، أي الخالية من المجاز، تصنع شفرة حادة كنصل سكين، كمن تكشط طبقات جرح تلو أخرى، لكنها أيضا هي المخدر الوحيد الممكن. اللغة العارية هي مدخل الكلام ذاته، فهي اختيار ينتمي للحرفة، أي الجزء البارد والواعي كي ينتقل على الورق كل ما هو حي وحميمي، بمعنى آخر هو طوق نجاة لما “ما لم تكتبه فاطمة قنديل”، العنوان الفرعي لكتابها، وهي جملة أفهمها كالآتي ما صمتت عنه فاطمة قنديل أو ما كان يجب ألا تكتبه فاطمة قنديل، كأن دور الكلام والكتابة معكوس، محو لا بوح، حذف لا إضافة، فالهدف كان محو الحكاية من الذاكرة عبر تدوينها أو على الأقل تفريغها من أثقالها، فتصبح مجرد صور غامضة مبتورة، وكذلك تصير تلك اللغة العارية هي طوق نجاة القارئ إذا أراد الكلام عن الكتاب، وكي يتجاوز عتبة الصمت التي تعقد لسانه بوصفها البلاغة الوحيدة الممكنة.
ثمة شيء من عصبية وعنف من عانى عبء الأحمال الثقيلة وحده وسط تخلي من حوله عنه، شجاعة الخائف من الخذلان بعد أن تجرعه مرارا، وكرامة من جرب ذل الاعتماد على أحد، فاضطر أخيرا إلى التعفف عنه، لذا تحيط فاطمة قنديل كامل حنانها وبوحها وحميميتها وهديتها بأشواك قنفذ (هل أفسر بذلك إحجامي ورهبتي من الكلام مع فاطمة قنديل حتى قبل أن أقرأ الكتاب، سواء عندما أراها من بعيد في ندوة أو عبر الفيسبوك، كأني فهمت ضمنا أن عبور ذلك الحاجز الافتراضي شيء خطر، كيف تكونت تلك الصورة عنها، رغم أني لا أعرف عنها إلا أنها شاعرة كبيرة مهمة).
إذن لا سبيل للتلاقي بين فعل الكتابة والقراءة إلا عبر أصابع مدماة، وفي ذلك يصير الاثنان، فاطمة وما لم ترغب في أن تكتبه، والقارئ الذي لم ترد له أن يتلقى كلماتها، شريكين معا، عبر فعل الإبعاد تحديدا، ما يستبعد هنا، ما يخلصنا منه السكين، هو الشفقة والتعاطف الزائف الذي لا يعول عليه. قارئ لا يخذلها كما فعل أشقاؤها الذكور، أن تعبر معها السور عاريا من الأقنعة والزيف، محتملا رهانات الخطر، هو السبيل الوحيد لشعور الطرفين بالأمان.
مدخل الحرفة إذن هو طوق نجاتي للكلام، ففاطمة هي أكثر من كاتبة محترفة في هذا النص، تملك أدوات سرد تعرف متى تمنح المعلومة ومتى تخبئها، وكيف تصنع التوتر والتصاعد اللازمين، ورغم الإيحاء بأن الفقرات السردية مبعثرة، إلا أنك في نهاية الكتاب، تكتشف أنها لم تحد قيد أنملة عن عصب الحكاية: علاقتها بأمها وعبء تحمل مرضها، العصب الذي ينبثق منه الكلام عن كل شيء آخر تضمنه النص، لذا قد أستسيغ كلمة رواية التي تم تصنيف العمل تحتها ربما لأسباب تسويقية لا تخص فاطمة، فهو يملك الكثير من خصائص الرواية، رغم أن نثر ” أقفاص فارغة” يتجاوز ذلك التصنيف الضيق مقارنة بما أنجزه فعلا.
بعيدا عن الكتاب، تؤذيني فكرة معاملة فن الرواية بوصفه قمة هرم الأدب، وأرى أن ذلك ينتقص من ذلك الفن الذي أحبه ويزيده هوانا وإذلالا، لا يجب أن تكتب الرواية (وهنا لا أتحدث عن الرواية المكتوبة لأغراض تجارية) لأنها الطريق الأسهل والأنجح للتوقير والرواج، بينما نجاحها لم يعد يدل على انتمائها للأدب، على فن الرواية أن يفهم شيئا مهما تمثله كتب على غرار “أقفاص فارغة ” وفي ” أثر عنايات الزيات” وغيرها. يجب أن تكون الرواية فن الضرورة، أن تكتب بسبب اليأس لا الأمل. اليأس من إيجاد شكل آخر للتعبير، هذا هو السبيل الوحيد لنجاتها وبقائها داخل دائرة الأدب.
تفكيري بالحرفة ليس إلا كهامش جانبي خارج متن الكتاب يتصل أكثر بما يشغلني ككاتب، والذي رأيته من قبل في أحد فصول كيف تلتئم، عند إيمان مرسال، الذي تحدثت فيه عن علاقتها بابنها مراد، التعبير عن الحميمي، وتحقيق التأثير المزلزل عبر إستراتيجيات نثر متطورة تتخذ منظورا آخر للغة، لا يحرم القارئ من التعاطف والتوحد دون أن يبتزه بتوسل الشحاذين للعاطفة أو ما أسميه تسليع “الألم والوحدة والاكتئاب” وتحويلهم إلى علامات زائفة للتفرد. كذلك فعلت فاطمة وربما كان في ذلك سبب إضافي لتحذرنا من الاقتباس عنها، وأيضا استلهام ذلك الحس الأمومي الذي وإن أحاطه العقل والبرود كخدعة “تسعينية”، فهو لا ينهل إلا من جرح ما يتجاوز سياج العقل وتلهمه الروح والغائب واللاعقلاني وهواجس المخيلة النشطة.
لغة إيمان مرسال التي تتسم بالوضوح والقوة والنصاعة، ولا يتعارض عندها العمق مع البساطة، كثيرا ما شغلتني، لأنها ليست أمرا سهلا، لكن تلك المرة تحثني لغة فاطمة على التفكير في شيء آخر، في مدخل لما أدركت أني أخشاه حقا، مواجهة الذاكرة، عندما انتبهت فزعا قبل أعوام قليلة، إلى أن بعض الصور تطاردني جامدة، خالية من الحركة، مبتورة السياق، تطفو بلا معنى أو حكاية، وأن ذلك كان وسيلة ذاكراتي التي مارستها دون وعي كي لا أباغت بالفزع، رغم أن ما تخبئه لا يقارن بقسوة ما تعرضت له فاطمة وتحملته.
أعلم أن ذاكرتي أيضا تعمل بطريقتها، ليس عبر التذكر بل عبر النسيان، فالنسيان أيضا إحدى وظائف الذاكرة، أدرك المعنى في تجريده، لأني أدرك جوهر ما حدث ثم أنسج من حوله التفاصيل المتخيلة، في نصوصي لا تُنكر الحقيقة أو تختبئ الكوابيس، تواصل الطواف بوحشية أكبر، لكن منذ أدركت ذلك، وأنا أمارس تمارين كتابة على تلك المواجهة، أسميتها في البداية تمارين توسيع الكادر، ثم أسميتها تمارين معانقة الأشباح، هدفي أ عبر تلك التدريبات، ليس كتابة سيرة ذاتية بل أن أفتح طرقا أخرى للتخييل عبر والسرد، إضاءة سراديب ذاتي ومضاعفة مراياها.
لكن ما الذي جعلني متأثرا بنص أقفاص فارغة إلى هذا الحد، هل لأنها أنجزت ما أخشاه، وأتدرب عليه ببطء وحذر، مراوغا عادات الذاكرة التي اكتسبتها في غفلة مني. هل لمحت طريقا للنجاة من وحشية الكوابيس؟ لغة عارية من المجاز، إلا في التفاتات قصيرة عندما تتوقف لتفحص، لكن فيها تكمن البلاغة عينها، هل في لغة فاطمة الطموحة، أحد الحلول لعناق الأشباح؟
هل أبالغ كعادتي عندما أقع في غرام كتاب؟ سيخبرني الوقت. لكن ما الذي نطلبه لنقع في غرام كتاب أكثر من أن يبادلنا النظر، أن يفتح ثقبا ما أو يشير إليه أو يلهم فكرة، أن يلمس عصبا عاريا، أن نشعر بالحياة تسري فيه وأن كلماته ليست ميتة، بل تبادلنا الأنس والكلام والقلق. ما أسهل أن تتحقق تلك الشروط البسيطة في كتاب، وما أندر أن يتحقق ذلك.
بالصدفة أو ربما بتأثير ” أقفاص فارغة” كان الكتاب التالي الذي التقطته يدي تلقائيا هو كتاب سجن العمر لتوفيق الحكيم، الذي قرر أن يفحص ذاكرته ليفهم سجن طبيعته بأمل أن يتحرر منها، سجن الطبيعة بمفهومه هو سجن للموهبة وعائق يكمن الأمل كله في ألا تكف عن مقاومته دون أن تطمع في أن تنتصر عليه نهائيا. لاحظت، وهو الذي عانى من الذاكرة كصورة جامدة مبتورة، استخدامه للغة عارية، لكنها بالطبع لا تقارن بصراحة أو شراسة لغة فاطمة التي تنشب مخالبها في روحك أثناء القراءة، لكن لا وحشية في الأمر، فكما أن القراءة في النهاية هي أنس طوعي بين شريكين مقيدين في دوائر الجحيم، فالدماء (دماء الكاتب والقارئ) مخلوطة بحنان غامر يطوقك، ويطل من كل سطر رغم الأسى، لعل قوة فاطمة تذكرك بقوة النساء الملهمة في التحمل إذ يواجهن العالم دون استحقاقات دون أن يتوقفن عن تحمل عبئهن وعبء من حولهم، قوة النساء الضعيفات المنهكات، مرتكبو الشرور والزلات وهو أمر تحتاجه الذكورة في مواجهة أساطيرها عن نفسها وبعض النساء أيضا إذ يعدن تخييل قوتهن برومانسية مزعجة تبعد بهن عن الحقيقة وتميل لصناعة صورة متوهمة.
رغم كل إنهاك وضعف وإذلال وزلات وشرور تمكنت فاطمة من الوقوف بقدمين متماسكتين، لم تحقق نصرا نهائيا، لكنها كما فعل الحكيم، ظلت تقاوم.
ما أن انتهيت من قراءة ” أقفاص فارغة” حتى أدركت أن الصمت، رد الفعل الوحيد الذي يليق، أشبه بكبسولة مضغوطة غرست في روحي، ستسري أو تنفجر بالكلام في الوقت الذي تختاره، كشأن كل أدب ملهم، هل سأتحرر مثلها من شيء؟ فالإدراك أيضا بداية للعتق، هل أنجح في مواجهة ذاكرتي بتلك الشجاعة؟ النظر في عين وحش دون التفات، متحملا رعدة معانقة أشباحي، يا لرباطة الجأش.
الكاتب
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد