همتك نعدل الكفة
166   مشاهدة  

يوم تمنيتُ أن أغيّر قدري

يوم


كان صباحًا قاسيًا، كصفعة انهالت فجأة على وجهي في البرد.

لا أتذكر تاريخ وفاة جدتي بدقة، ولا تفاصيل اليوم؛ فكعادة مخي يقوم بعمل تشويش على تفاصيل ذكرياتي التعيسة؛ فأتذكرها على صورة مشاهد متباعدة متقاطعة؛ كأنها كانت مجرد كابوس.. وكم تمنيتُ أن يكون هذا اليوم بالذات مجرد كابوس لا وجود له في الواقع، تمنيتُ كثيرًا دون جدوى.

بالرغم من كل ذلك، أتذكر وجه أبي عندما رأيته فور استيقاظي.. كانت ملامحه منحوتة بمزيج من الحزن والدهشة.. همس لي بكلمتين لم يضف عليهما شيئًا: “جدتك ماتت”

“حماته” التي أحبته مثل أبنائها وأكثر تستحق منه كل هذا الحزن.. جدتي الجميلة، والدة أمي، صاحبة الدم الخفيف، والحضور الطاغي، وربّة الحكايات المُدهشة، كانت ولا تزال تستحق أن نحزن على رحيلها.

لكني يومها كنتُ أملك ما هو أسوأ من الحزن: كنتُ ساخطًا، غاضبًا من القدر، واختياراته، وتوقيته.. لم أتقبل فكرة موتها؛ وربما لهذا لم أبكِ على وفاتها، إلا بعد أسبوع، عندما كنتُ أقرأ في المصحف، كما نصحتني أمي، وفجأة انفجرتُ في البكاء.. بكاء ونحيب مرّ، عظّم من إحساسي بالسخط، وعدم الفهم، وانعدام الرضا.

تمنيتُ أيامها أن أمتلك القدرة على التحكُّم في قدري، وتوقيتاته، وتغيير أحداثه السيئة.

(2)

وجدتُ حلمي يتجسد أمامي، وأنا أشاهد الفيلم الأمريكي الجميل: “أثر الفراشة”، الذي امتلك بطله الشاب قدرة خارقة، ورثها عن أبيه، الذي أودعوه مستشفى المجانين عندما صارح مَن حوله بحقيقة امتلاكها، حيث يستطيع الرجوع بالزمن للحظات الصعبة الحزينة في حياته؛ ليُغيّرها بالشكل الذي كان يتمنى أن تسير الأمور عليه.

وفي كل مرة، مع كل عودة به بالزمن، وتغييره ل يكتشف أن نظرية “أثر الفراشة” لا تزال تعمل.. تقول الأسطورة أن خفقان جناحي فراشة في مكان ما؛ ربما يتسبب في انفجار بركاني في مكان آخر بعد سنوات..

فكل تغيير يحدثه البطل في ماضيه؛ تترتب عليه نتائج كارثية في حاضره، أضعاف أضعاف ما جرى بالفعل من نتائج سيئة في واقعه الأصلي.. كل مرة يحاول إصلاح ما أفسده القدر في ماضيه الأصلي، يكتشف أنه يزيد واقعه سوءًا وبؤسًا.. وكأن أفضل ما كان يمكن أن يحدث قد حدث بالفعل، بالرغم من كل ما كان فيه من مرارة، وفواجع، وأسئلة بلا إجابات.

(3)

منذ فترة قصيرة، توصلتُ لقناعة بسيطة، بعد بعض القراءات والمناقشات، وهي أن المشكلة الرئيسية لم تكن في أن الشيطان سأل “لماذا”، عندما أمره الله بالسجود لسيدنا “آدم”.. نبي الله إبراهيم طلب من الله صراحة دليلًا على قدرته؛ وعلل هذا بأنه يريد أن يطمئن قلبه.. الشيطان لم يسأل “لماذا” فقط، لكنه عاند، استكبر، عصى الأمر الإلهي، وادّعى لنفسه قدرة على مخالفة الأمر الإلهي.

لم تكن المعصية وحدها هي المشكلة، بل العِناد والمكابرة، والتصميم عليها، ومنازعة الله- عزّ وجلّ- في سُلطانه.

إقرأ أيضا
أثر الفراشة

(4)

في الفترة الأخيرة، صرتُ أكثر تقبّلًا لتقلبات القدر واختياراته، عن قناعة بأن تدابير الله أفضل من غيرها؛ ولأنني أعلم أن العناد والمكابرة درب من دروب الشيطان الشيطان، ومآلاتها هي الغضب والحقد، والذي جسّده العبقري “يحيى الفخراني” في صرخته وهو يجسِّد دور الشيطان “ونّوس”: أنا متغااااظ! أنا متغاااااظ!

ولأنني إنسان ضعيف، كما خلقني الله، ولأن الوقوع في الخطيئة مرتبط بوجودي، لا زلت أشعر أحيانًا برفض بعض ما يدبّره لي القدر، لكني أتذكر أني لابد أن أصبر على ما أحط به علمًا؛ لأن الله يعلم، وتدابيره خير، حتى الذي أظنه شرًا، في مقصده خير لا أراه، ولن أدركه بقدراتي البشرية المحدودة.. ولأن طريق “ونّوس” لا نهاية له إلا الحسرة، والغربة عن الله.

حاليًا، أجدني أهمس لنفسي، كلما تمردتُ على إرادة الله: يعلم ما لا تعلم، ويدبّر ما لن تستوعب، ويرحمك بقدر ما لا تتصور، يا إنسان!

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان