انترناشونال وعقارب الساعة
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
حِب ما تعمل حتى تعمل ما تحب
حِب ما تعمل حتى تعمل ما تحب
حــِ ب
مـا تــعمـــل
حــتـــى تـعمل مـا
تــُ حــ ب
يردد هذه المقولة سرًا، بينما جهرًا يحاول التركيز في شرح الدرس وهو ينظر إلى الساعة التي لا تتحرك وتنقذه من الحصة. يسحب وراءه وسائل الإيضاح من فصل إلى فصل وهو منهك، والغريب أنه يشعر بهذا الإحساس منذ الحصة الأولى.
خصص حقيبة لجمع أقلامه والهدايا الصغيرة لتشجيع الأولاد وما إلى ذلك. يسب بصوت غير مسموع عندما يستخف أحد الطلبة ويخفيها من أمامه من باب الهزار، ليقول من بين أسنانه بصوت خافت:
-يا ابـــــن السخيفة.
يرسم ابتسامة على شفتيه كل صباح كالمضيفات، ومع غلق باب الفصل، يجب عليه الفصل بين واقعه وبين مهنته كمربي أجيال، عليه أن يبدو كالملاك كي لا يرتكب الخطأ ويقلده الصغار.
ممنوع الكلام…ممنوع الحركة…ممنوع الأكل داخل الفصول.
“ممنوع” هي الكلمة السائدة على لسان جميع المدرسين من أجل تعليم الأطفال النظام. وكان يتمنى لو يخرق كل هذه القوانين
بعد سعي على المعامل وتحمل أكثر من ضفدع مجنون، اضطر وائل بعد تخرجه في كلية العلوم العمل بالتدريس.
الصبر الذي نحتاجه للتعامل مع الأطفال لا يختلف كثيرًا عن الصبر الذي نحتاجه للتعامل مع تشريح الضفادع!..هكذا اعتقد وائل عبد الحميد في بداية عمله..
يكره وائل فقرة طابور الصباح؛ مملة، ويمقت مدرسة الألعاب التي تتمايل كل صباح مع موسيقى الطابور بكيلو من مساحيق التجميل على وجهها، موجهة الأطفال للتحرك معها بنفس الحركات يوميًا:
-يلا يا ولاد 1234
يتساءل دائمًا ألا تمل أبدًا؟..ألا يمل أحد هنا من هذا الروتين والأيام التي تشبه بعضها البعض؟
باتت حياة وائل روتينية مملة بين هذه الفصول، كلون الحوائط الرمادية من حوله يتأمل وجوه التلاميذ فيجدها بلهاء على الرغم من محاولاته الدائمة توصيل المعلومة. لا يعلم أهي الكيمياء الصعبة أم هم؟ أهي الحياة أم هو؟ هل يشرح بشكلٍ جيد أم يؤثر عليه مزاجه السيء طوال الوقت؟
يشتكي لأول مرة لمدرس لغة عربية بالمدرسة فيرد قائلًا:
-أنت مش بتشرح وبتعمل اللي عليك؟..أنا بقى اللي مسؤوليتي كبيرة بديهم عربي ودين وبيطلعوا بأسئلة في حصة الدين بنت (لذينا) يا أجاوبهم صح يا ممكن تهرشلهم دماغهم ويخرجوا أو يخرجوني من الملة..ها إيه أسهل الدين ولا الكيميـــــــــــــــــــا؟!
يتنهد كثيرًا أثناء الشرح، ينظر لعقارب الساعة المعلقة على الحائط ليستغيث بها وتنفرج أساريره عندما يسمع جرس الحصة الذي يعلن عن إنقاذه من هذه الفقرة المتكررة.
أصبحت الحياة أكثر مللًا عندما أقنعه أحد الأصدقاء أن الدروس الخصوصية هي الحل الوحيد كي يزداد دخله، يحاول إقناع صديقه أن المرتب يكفيه حتى لا يشعر بالعجز فيرد صديقه باستهزاء:
-يا سيدي البحر يحب الزيادة.
أقرأ أيضا..زفة عصافيري على شباكي
يجلس أخينا على ترابيزة بأحد المنازل يتذكر كلام محمد هنيدي بفيلم “رمضان مبروك أبو العلمين حمودة” عن أن المدرس تقل قيمته عندما يوضع له الشاي والكيك، فتقطع والدة الطالب حبل أفكاره قائلة بعلو صوتها:
-الـــشـــاااااااي.
يتنهد أكثر وينظر للساعة حتى انتهاء الحصة.
ينتظر في خجل والدة الطفل حتى تُحضر ثمن الحصة، فيتعجب أنها تخرجها أمامه من صدريتها كمعلمين السوق!.. يشمئز من الموقف ويحاول جاهدًا أن يبعده عن مخيلته حتى يستطيع أخذ ماله برضا فالوضع كله يثير مضايقته.
وجاء اليوم الذي ذهب فيه لبيت أحد الطلاب فوجده نائمًا وحكت له والدة الطفل أنها ضربته بالحزام حتى نام من التعب وتشعر بالذنب تجاهه وتريد منه أن يحاول التفاهم معه إزاء تصرفاته التي تضايقها، واعتذرت له عن الموقف وطلبت من والد الطفل أن يوقظه فسمعه يسبه ويحاول ضربه مجددًا كي يستفيق ليأخذ حصته، فقرر أن ينصرف بلا رجعة لهذا البيت ولا لغيره من البيوت.
في الصباح أخذ يجر رجليه حتى المدرسة التي تتمثل حسنتها الوحيدة بأنها قريبة من المنزل، ينظر للأولاد في طابور الصباح فيصطدم بمدرسة الإتيكيت التي تصدر ابتسامة مصطنعة من البطن لزوم تعليم مادتها، فلا يستطيع أن يرد لها الابتسامة يلفت نظره تلميذٌ جديد يبدو على خلق، بشوشًا، نظيفًا، مرحًا، يتقرب إليه ويسأله:
-أنت جديد ؟
التلميذ: أنا يا مستر اللي كنت منقطع ومسافر..رجعت إمبارح بس.
-اسمك إيه؟
-أنا اسمي إياد.
-أهلًا بيك يا إياد.
اكتشف المدرس أن إياد ليس مرحًا ونشيطًا وفقط، ولكنه ذكي يحب الكيمياء، يتناقش معه طوال الوقت عنها. يتردد إلى حجرة المدرسين لزيارته والاطمئنان على أحواله ومناقشته كل يوم.
يسأل السؤال بعد انتهاء كل حصة فتقع عيناه على إياد، يعرف جيدًا أنه أول من سيرفع يده ليقدم إجابة مبهرة نموذجية.
تجدد عنده بعض الأمل في الحياة ، وتوقف عن النظر لعقارب الساعة أثناء الحصة، وأصبحا هو وإياد كصديقين يتناقشان في كل شيء، بل أنهما حددا ميعادًا لمقابلة خارج المدرسة، ولكن انتظره لأكثر من ساعة لم يتصل فيها إياد للاعتذار و لم يظهر!
في المدرسة كان حديث التلاميذ والمدرسين عن التلميذ الذي أخذه أهله إلى المستشفى لأنه شعر ببعض التعب فأصر الأطباء على حجزه لبعض الفحوصات ولم يتوصلوا لطبيعة مرضه الذي أعياه بهذا الشكل.
علم من أصدقائه أن زيارته صعبة فالساعات القليلة المسموح بالزيارة فيها تكون دائمًا لأهله. ورجعت المدرسة السجن الذي كرهه . كل يوم ينظر إلى مكانه فيجده فارغًا من الأسئلة والمرح، كل يوم ينتظر أخباره دون جديد.
يتجمع التلاميذ بعد انتهاء اليوم الدراسي أمام المستشفى ويقرأون له القرآن ويدعون له بالشفاء. لو كانت له أمنية واحدة يضمن تحقيقها لدعى بأن يرى ابتسامته وحماسه مع كل سؤال يسأله.
تمر الأيام دون أخبار جديدة، حتى عرف وائل أن تلميذه خرج لغرفة عادية بعد مكوثه بالعناية المركزة بضع أيام ذبل فيها . ذهب لزيارته فوجده مُبتسمًا يحاول التغلب على المرض على الرغم من الكيلوجرامات التي فقدها خلال أيام. ولكن قاطع إياد كلام مدرسه أثناء حديثه عن الكيمياء محاولًا إلهائكه عن التفكير، قاطعه بسؤال وفي عينيه نظرة تنتظر الأمل:
-تفتكر هخف يا مستر وهابقى كويس؟
سكت للحظات وشعر بمسؤولية كبيرة قبل أن يتفوه بحرف، يرعبه الأمل الزائف، ترعبه الأشياء المجهولة المفاجأة التي تحارب الحب والأمل ولا نعرف لها هوية حتى ننتصر عليها ونهزمها.
تنهد تنهيدة عميقة بحجم الخوف والحزن ، ثم نصح إياد أن يسلم أمره لله لأن حياتنا كلها وأقدارنا بيده.
مرت الزيارة بسلام ومع ذلك شعر بحرارة في المعدة وكثير من القلق، أخذ يجول في الطرقات حتى دلف إلى أحد المقاهي وطلب قهوة باللبن في برد الشتاء، فجاءه اتصال من أحد التلاميذ في تمام انهياره:
-إياد مات يا مستر..كان لسة بيتكلم معايا بس هو دلوقت.. مات.
لم يتحمل وائل وظيفته كمدرس بعدما حدث، وكانت الاستقالة هي الطريق الوحيد لإنهاء هذه الوظيفة التي يراها أحيانًا عبثية!
الكاتب
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال