“ماما بتحبك يا علي”.. الخطف الأبوي جريمة “بلا عقوبة” (ج1)
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
“ماما بتحبك” كلمات بسيطة منع من قولها أمهات أكثر من أن نستطيع حصرهم، كما حرم من دفء حروفها أطفالهن؛ بسبب ما يمكن أن نسميه “الخطف الأبوي”، والذي يضع الأمهات وأحيانًا الآباء أيضًا تحت وطأة هذا الظلم لسنوات. خطف أحد الوالدين للأطفال جريمة متفشية ليس فقط في مجتمعنا، بل حول العالم، وللأسف لا تزال تمر بلا عقوبة بحجة أن “الأب/ الأم لا يمكن أن يختطف طفله”.
عفوًا أيها القانون، يمكن أن يختطف الأب طفله، ويترك الأم لسنوات مبعدة عن فلذة كبدها دون حتى أن تعرف مكانه. بلا سبيل للتواصل مع صغيرها الذي حملته تسعة أشهر سوى توسلات على صفحات التواصل؛ لعل من يراها يعرفه ويبلغه صوتها الذي لم ينقطع عن قولها “ماما بتحبك يا علي”. هكذا تعرفنا على سلمى رضوان، مهندسة الصوت والفنانة المبدعة، التي تعيش سيناريو الخطف الأبوي بأصعب صوره؛ من خلال منشورات على فيسبوك تستجدي من يعرف “علي” أن يبلغه حبها، ومحاولتها غير المنقطعة للوصول إليه.
سلمى حالها مثل آلاف الأمهات اللاتي فقدن أبنائهن بعد خطفه على يد الأب، ليدخلن دائرة مفرغة مع المحاكم والقوانين التي لن تبذل أي مجهود للبحث عنه؛ لأنه بكل بساطة ليس مخطوفًا في نظر القانون. وما يزيد الطين بلة أن يختطف الصغير من بلد لأخرى، لتتسع المعادلة وتشمل القوانين والمعاهدات الدولية التي لا تزيد الإجراءات الورقية إلا تعقيدًا. وهنا يصبح الوصول إلى الطفل أمر يحتاج إمَّا إلى معجزة، أو إلى منجم ذهب يتيح للأم السفر إلى بلاد قد لا تدري عنها شيئًا لخوض معركة قانونية غير محسومة لصالحها.
اختطاف “علي” بحجة عدم أهلية الأم
حتى عام 2021 كان علي يعيش في ظل والديه كأي طفل عادي، تمر عليه أيام المدرسة في شقتهم بالمعادي، ويقضي العطلات في منزل الزوجية بالمنصورية. حتى قرر الأب فجأة السفر إلى فرنسا مصطحبًا علي معه، بلا مقدمات وبلا عودة. لتتفاجأ سلمى باختفاء ابنها وزوجها، دون أثر أو وجهة تبحث عنهما فيها.
في حديثها مع الميزان تخبرنا سلمى أنها قضت بضعة أيام تبحث عنهما، حتى تواصلت مع ابنة زوجها وعلمت منها أن علي بخير مع والده، لكن لا يريد أن يفصح عن مكانه. اكتشفت فيما بعد أنهما سافرا إلى فرنسا، لتحاول على مدى أشهر البحث عن طريقة ودية لحل المشكلة بدلًا من اللجوء لسكة المحاكم.
مع مرور الوقت اضطرت لاستصدار أمر تسليم فوري من النائب العام؛ إلا أنه لم يكن يغني أو يسمن من جوع مع وجود الطفل خارج حدود مصر، وفي بلد يحمل هو ووالده جنسيتها. تتفاقم المشاكل أكثر مع الخطوات التصعيدية التي غالبًا ما يلجأ لها الأزواج للتضيق على زوجاتهم، حيث مُنعت سلمى من دخول منزل الزوجية باستخدام بلطجية؛ لتصبح بلا مسكن بعد فسخه عقد شقتهما بالمعادي أيضًا.
“مختلين عقليًا”! هكذا وصف والد علي والدة ابنه وجدته أمام المحكمة، بعد رفعه دعوى باطلة لفسخ عقد زواجهما. محاولة استباقية يستخدمها المحامون لإنهاك الزوجات بقضايا عبثية، قبل أن يرفعن قضية طلاق؛ بهدف التهرب من مستحقاتهن المالية المشروعة.
الروتين يقتل علاقة الأم بطفلها.. سنة كاملة قبل الوصول لأول إجراء
عام كامل استغرقته وزارة العدل الفرنسية للرد على إدارة التعاون الدولي بوزارة العدل المصرية، حين لجأت إليهم سلمى بقرار النائب العام الذي ينص على التسليم الفوري لطفلها. بعد كل هذه الأشهر التي استغرقتها فرنسا للوصول إلى علي ووالده، كان الأب قد انتقل إلى محل إقامة آخر؛ وهنا عاد الرد الفرنسي يطلب من الأم العنوان الحالي.
بالطبع ليست كل الأمهات قادرات على الضلوع في مهمة بحث وتفتيش للوصول إلى عنوان، حتى داخل مصر يتعذر على الكثيرات التوصل إلى محل إقامة أطفالهن المختطفين؛ لكن سلمى استطاعت إرسال العنوان الجديد، مرفقًا بحكم واجب النفاذ من المحاكم المصرية بالحضانة وتسليم الصغير.
بناءً على نصائح المختصين رفعت سلمى قضية تنفيذ حكم أمام القضاء الفرنسي، استنادًا إلى اتفاقية التعاون القضائي بين مصر وفرنسا، إضافةً إلى طلب منع الطفل من مغادرة البلاد لحين البت في الدعوى، ولا تزال تنتظر دورها في إحدى محاكم جنوب فرنسا. لتجد نفسها أمام قضية حضانة كاملة رفعها الأب بدعوى فقدانها الأهلية، لكن تلك المرة في محكمة فرنسية.
سألنا سلمى إن كانت فكرت في ترك مصر والانتقال لفرنسا، وهو بالطبع خيار فكرت فيه كثيرًا؛ إلا أنه بدا عقوبة لها ولطفلها أكثر من كونه حلًا. حيث شرحت قائلة: “لماذا أدفع ثمن أخطاء غيري؟ لماذا أضطر للانتقال إلى بلد لا أتحدث لغته، ولا أمتلك به محل إقامة أو عمل أو أي صلة؟ وفي النهاية لن أتمكن من اصطحاب ابني والعودة إلى بلدي؛ وسيكون الوضع أصعب على نفسية علي حين يجد أمه لأيام ثم يفقدها مرة أخرى”.
سنتين ونصف وعلي بعيد عن أمه لا يتمكن من رؤيتها، ولا حتى سماع صوتها إلا مرات معدودة، قبل أن يمنع والده التواصل معها نهائيًا. حاول علي الوصول لأمه بوسيلة أذكى من قدرة طفل لم يتجاوز الـ11 عامًا، حين تواصل مع سلمى عن طريق لعبة جماعية مزودة بإمكانية المحادثة البسيطة. مرات معدودة تمكن خلالها من طمأنة والدته على أحواله بكلمات بسيطة عبر اللعبة، حتى مسحها والده من الآي باد الخاص به. ورغم تدخل الأقارب المتعاطفين مع الأم المحرومة من طفلها للتوسط لدى والد علي، لم يكن هناك أي استجابة.
في كثير من الأحوال لا تكون الأمهات في حالة تسمح بالحصول على وظيفة وإعالة أنفسهن، فضلًا عن تحمل تكاليف القضايا والمحامين في بلد أجنبي، ناهيك عن الآثار النفسية السلبية التي يعيشها كلًا من الأم والطفل في تلك الفترة. ومع الأسف لا تنتهي تلك القضايا بنهايات سعيدة كما هو الحال في الأفلام؛ المشوار صعب ومرهق، كما أنه غير قابل لتدخل المساعدة من منظمات المجتمع المدني.
بينما تنتظر سلمى دور قضيتها في محاكم فرنسا، تسعى للحصول على أي دعم من منظمات حقوقية أو مدنية فرنسية؛ لأنها مثلنا جميعًا “مش عايزة تكون لوحدها”. خطوة أصعب مما تبدو عليه؛ فهي لا ترغب إطلاقًا أن يصبح علي وسيلة قد يستخدمها المنتفعون للمتاجرة. بعد كل شيء هدف الأم هو مصلحة الطفل، وإن كان على حسابها.
في يوم من الأيام سيكبر علي في حضن والدته، ويستوعب معركة خاضتها سلمى، ومثلها آلاف الأمهات من أجل أبنائهن؛ وربما سيكبر أطفال غيره بعيدًا عن أمهاتهن. أيًا كانت نهاية القصة، لا نريد أن يكبر علي وقد ضاعت طفولته في روتين المحاكم والأوراق، كما لا نريد أن يكبر علي والحال كما هو عليه. الاختطاف الأبوي جريمة، أبشع من أن تمر بدون عقوبة، وأقول بدون عقوبة لأن غرامة 500 جنيه لا تفي حق يوم واحد عاشته سلمى تبحث عن علي.
الكاتب
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال