الإمام الشافعي ومصر “حب وفقه صنع أشهر مذاهب الإسلام الأربعة”
بين الإمام الشافعي ومصر حب من طرفين لا طرف واحد، فالشيخ محمد بن إدريس كان متصفًا بالورع والعبادة والكرم والتواضع بالإضافة إلى كونه ملمًا بعلوم إسلامية شتى نظرًا لكثرة تنقله وترحاله بين المشايخ و البلدان، بينما مصر أحد البلدان التي استطابت لها نفسه الإقامة فيها، ومن هنا نتحدث عن مدى تعلقه بمصر العريقة؟؟ والعلوم الإسلامية التي كان يتعلمها؟؟ وسبب وفاته في مصر؟؟.
الإمام الشافعي ومصر .. كيف وصلها بالحب حتى استقر فيها
كان الإمام الشافعي مقيمًا في بغداد والتي كانت معروفة في هذه الفترة بكونها عِش الفقهاء وكان له فيها مريدين وتلاميذ، بالإضافة إلى أنه جاء إلى بغداد بطريقة جديدة في الفقه والتي على أساسها كان ينشر فقهه، فكان علمه في الفقه كليًا ليس فروعًا جزئية، وفي المرة الثانية التي كان مقيمًا فيها ببغداد اعتزم الإمام الرحيل والإقامة في مصر، مع أن مصر في هذا الوقت لم تكن لها مكانة علمية مقارنةً بالمكانة العلمية التي كانت تحتلها بغداد حينئذٍ.
اقرأ أيضًا
قراءة تاريخية .. جوابات المصريين للإمام الشافعي الحقيقية وليست الواردة في فيلم صاحب المقام
والسبب الرئيسي في هجرة الإمام الشافعي إلى مصر أنه وجد في بغداد أمر لا يمكن تحمله والتغاضي عنه، فعندما كانت الخلافة في بغداد لعبدالله المأمون قام بجعل المعتزلة جُلساؤه وحُجَّابه وكتابُّه فضلًا عن جعلهم هم القائمين على العلم وأهله، وهذا الأمر لا يرتضيه الشافعي كونه لا يُحب المعتزلة ولا تستطيب نفسه لمناهج بحثهم، ومن هنا قام الإمام الشافعي بالرحيل إلى مصر التي وجد فيها السعة والأمان.
اقرأ أيضًا
“أنا شيء ؟!” قراءة صوفية لديالوج مشهد محمود عبدالمغني في فيلم صاحب المقام
في هذا الوقت كان والي مصر عباسيّ قرشيّ هاشميّ، وكانت السنة التي قدم فيها مصر ١٩٩هـ وبها مات أيضًا سنة ٢٠٤هـ، وكان أول من نزل عليه في مصر هم أخواله الأزد، وكان سبب نزوله عليهم بناءًا على قول الإمام أحمد أنه أراد بذلك اتباع السنة فهذا ما فعله النبي عندما ارتحل إلى المدينة فأول من نزل عليهم هم أخواله بني النجار، وكان أهل مصر يحبون الإمام الشافعي ويهتمون بآراءه بسبب كونه له علاقة وطيدة بآل البيت فكان يتتلمذ على يد السيدة نفيسة التي دُفنت في مصر والتي أهدته محبة المصريين، بالإضافة إلى أنه قام بوضع فقه مصري جديد يتماشى مع المصريين، ومن أهم الأسباب التي جعلت الشافعي له مكانة كبيرة لدى المصريين أنهم كانوا يرونه رئيسًا ومسئولًا عن المحكمة الباطنية التي هي بمثابة الحد الفاصل بين الأموات والأحياء.
العلوم الإسلامية المتنوعة التي كان الإمام الشافعي ملمًا بها
كان الإمام الشافعي يشغل الناس بغزارة علمه وذكائه، فقد نازل أهل الرأي وأخذ يشغل بالهم، وكذلك في مكة قام بإخراج ونشر فقه جديد يهتم بالكليات دون الجزيئات، والأصول دون الفروع، فكان يقصد خلافات الفقهاء وبعض الصحابة يدرسها وفقًا للأصول التي كان يسير على أساسها، واهتم بدراسة اللغة العربية وكان ملمًا بها وكذلك علم الكتاب ففهم معانيه، ودرس علم الحديث الشريف فحفظ الموطأ الذي ألفه الإمام مالك وضبط القواعد التي تختص بالسنة، وكان يعرف الناسخ منها والمنسوخ، وكذلك أوتي فهم القياس والرأي، وكان يهتم كثيرًا بالدعوة إلى العلم والإستزاده منه، وعلى الرغم من كونه صاحب علوم كثيرة ومتنوعة إلى أنه كان كريمًا ومتواضعًا، ومن مظاهر تواضع الإمام الشافعي أنه كان يُحب عند مناظرته لأحد تلاميذه أو غيرهم بأن لا يُخطئ، ويرجو أن يكون لدى كل شخص علم من تلك العلوم التي في قلبه.
الفرق بين المذهب العراقي والمذهب المصري؟؟
عندما ارتحل الإمام الشافعي إلى العراق كان المذهب الذي عليه أهلها حنفي نظرًا لكون رياسة الفقه حينها كانت لأبي حنيفة، فكان الإمام الشافعي ملازم لصاحبه ابن الحسن فأخذ منه مبلغًا عظيمًا من الفقه، وكذلك عند رحلته إلى المدينة التي سبقت رحلة العراق أخذ من الإمام مالك مبلغًا عظيمًا من الفقه وحفظ موطأه، وبهذا اجتمع عند الإمام علم أهل المدينة وعلم أهل العراق، فاتجه إلى تأصيل الأصول وانصرف إلى تقعيد القواعد وفي رحلته الثانية لمدينة بغداد فكانت طريقته في الفقه جديدة لم يقم بها أحد من العلماء قبله فكان لا يُفصّل أحكام الفروع ولا يفتي في المسائل الجزئية فقط بل كان ينصرف إلى القواعد الكلية فيهتم بتأصيل أصولها ويضبط المسائل الجزئية بهذه القواعد فكان فقهه حينها كليًا ليس فروعًا جزئية، كما أنه قام بتأليف كتابه الرسالة وهو عبارة عن الأساسيات التي تتعلق بأصول الفقه، بالإضافة إلى نشره لمؤلفاته ورسائله في العراق وبسبب علمه الغزير انسال عليه الفقهاء والعلماء من كل صوبٍ ونحب، فأصبحت العراق معروفة بالمذهب الحنفي والشافعي، أما بالنسبة لهجرته إلى مصر فكان متعلق بها وتطيب نفسه لها، وحينها كانت المذاهب في مصر على ضربين منهم من كان يسير على مذهب الإمام مالك ومنهم من يسير على مذهب أبي حنيفة، فكان يرجو عند قدومه إلى مصر أن يأتيهم بعلم جديد يشغلهم عن هذين المذهبين جميعًا، وحدث بالفعل ما كان يرجوه وأخذ ينشر مذهبه وقام بإعادة تصنيف كتابه الرسالة، وكانت له مكانة عظيمة لدى المصريين.
خرج الإمام الشافعي أثناء مدة بقاءه في بغداد بفتاوي ورؤى فقهية ثم قام يجمعها في مجلده الكبير كتاب الرسالة الذي تم تأليفه سنة ١٩٥، ثم بعد ذهابه إلى مصر قرر أن يغير هذه الآراء والفتاوي لتتناسب مع ظروف مصر وأهلها، فعمد إلى تأليف كتابه الشهير “المبسوط” والذي عُرف فيما بعد بإسم كتاب الأم، وكتب الإمام الشافعي في هذا الكتاب كلمته المعروفة: ” لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي” فقد أعاد النظر في كثير من فتاويه المعروفة قديمًا، وقام بتغييرها بناءًا على تغير اجتهاد وتطوره، ولم يكن متشددًا لفتاويه التي اجتهد فيها قديمًا، ووصف المؤلف تغير فتاوي ” الشافعي” وتجديدها، لم تكن عبارة عن نسخ لفقهه ومذهبه القديم، بل كان عبارة عن تطور وتجديد تبعًا لسنة النمو والتطور.
استعرض كتاب “تغير الفتوى بتغير الاجتهاد” للدكتور عبدالحكيم الرميلي 8 مسائل في الفقه الشافعي بين العراق ومصر كانت أولها مسألة الماء الذي قد تم استعماله في جعل الطهارة فرض، هل يظل طاهرًا فيصبح طاهر ومطهر لغيره؟، خرج الشافعي قديمًا بفتوى أنه طهور، وكان قول ابن المنذر: أن الشافعي روى عن عطاء النخعي وعلي وابن عمر أنهم رأوا عند نسيان الرأس دون المسح عليها، فيجد الرجل لحيته مبللة فيكفيه أن يقوم بمسحها بهذا البلل، ومن هذا القول دليل كافي على أنهم يعتبرون الماء المستعمل مطهر.. أما بالنسبة لفقهه الجديد فقد أفتى الشافعي بفتوى جديدة تنص على أن الماء غير طهور، فقال: ” إذا توضأ رجل ثم قام بجمع وضوءه داخل إناء نظيف، وتوضأ بهذا الماء لم يجزه، وهذا لأنه تم استخدام الماء لوضوء الفرض مرة، ولا يُعتبر نجس”.
أما ثاني المسائل فتتعلق بالترتيب والموالاة أثناء الوضوء، وكانت من فتاوي الإمام الشافعي قديمًا أن الذي ينسى الترتيب أثناء الوضوء غير قاصد يصح وضوءه، وكان في آراؤه وفتاويه القديمة يرى بأن مسألة الترتيب أثناء الوضوء ليست واجبة، بناءًا على حديث ابن المنذر حكاه عن كل من ابن عباس وابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم، توضأ فقام بغسل وجهه، ثم بعد ذلك غسل يديه ثم غسل رجليه ثم بعد ذلك مسح رأسه، فرأى الشافعي وتبين له أن الحديث الذي قاله ابن عباس ضعيف، وأن مسألة قياس الوضوء بناءًا على مسألة غسل الجنابة قياس ولكن مع الفارق، وذلك لأن البدن الجُنُب كله شئ واحد ولهذا لم يجب الترتيب، وهناك أحداث أخرى روت عن النبي مسألة الوضوء وجميعهم وصفوه مرتبًا، وتبعًا لهذا قام الشافعي بتغيير فتواه.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بالمسح على كلا الخفين حيث خرج الإمام الشافعي قديمًا بفتوى وهي أنه لا يُحدد المسح بالأيام، إنما يدوم حتى يُحدِث أو يخلع ولابد من نزعهما، تبعًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أُبيّ بن عمارة، ثم بعد ذلك تبين للشافعي أن ابن عمارة أحاديثه ضعيفة، فنظر إلى أحاديث أخرى صحيحة والتي بسببها غير فتواه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :” للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة”، ووفقًا لهذا الحديث غير الشافعي فتواه القديمة.
أما رابع المسائل فتمثلت في نوم المصلي هل ينتقض وضوئه أم لا ؟، وكان رأي الشافعي قديمًا أن المصلى إذا تعرض لحالة النوم وضوئه صحيح ولا ينقض، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:” لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا” ثم قام الشافعي بعد ذلك بالرجوع عن هذه الفتوى التي أفتاها وأصبحت مسألة النوم عنده بالنسبة للمصلي ناقضًا، لأن المصلى إذا تعرض لحالة النوم حكمه كحكم الذي خرج من صلاته.
خامس المسائل فكانت تخص تناول لحم الإبل، فكانت من ضمن فتاوي الشافعي قديمًا تناول لحم الإبل والتي تُعرف بإسم الجزور أيضًا ينقض الوضوء، وينوه الكاتب بأن الشافعي قبل فتاويه القديمة كان يقول بأن الذي يتناول لحم الإبل لا ينتقض وضوئه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ثم بعد ذلك تراءى له أن الحديث الذي ينص على الوضوء عند أكل لحم الجزور هو حديث صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ترك الوضوء مما مست النار”، وأثناء قدوم الشافعي إلى مصر رجع إلى قوله الأول الذي قاله قبل الفتوى التي أفتاها قديمًا، وقرر أن الذي يأكل لحم الجزور باقي على وضوئه غير منقوض كغيره من الذي مسته النار.
بينما المسألة السادسة فكانت تتعلق بالمسح على كلا الكفين بغرض التيمم للصلاة، وكان يفتي الشافعي قديمًا بأن مسألة التيمم يكفي فيها المسح على كلا الكفين، ثم بعد ذلك غير فتواه القديمة بعد ما نظر إلى أحاديث قوية مقارنة بالأحاديث التي كان يعتمد عليها في رأيه القديم الذي قال به ابن عمار، والذي هو أقيس منه فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما تيمم فمسح وجهه ثم مسح ذراعيه.
أما المسألة السابعة فتتعلق بالتيمم ، إذ كانت من ضمن فتاوى الشافعي قديمًا أن التيمم بالتراب جائز بناءًا على ما رواه أبو هريرة من أن رجلًا ذهب للنبي فقال” إنا بأرض الرمل، وفينا الجنب والحائض ونبقى أربعة أشهر لا نجد الماء، فقال له (صلى الله عليه وسلم): عليكم بالأرض”، أما في مذهبه الجديد أفتى بفتوى جديدة تنص على أن التيمم بالتراب غير جائز.
المسألة الثامنة والأخيرة فهي حكم الرجل الذي يُجامع امرأته وهى في حالة حيض، وقد أفتى الشافعي قديمًا بأن الرجل الذي يُجامع امرأته وهي في حالة حيض فلابد من أن يقوم بإخراج كفارة، بناءًا على ما رواه ابن عباس أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يقول ” من يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار”، وقال الشافعي في مذهبه الجديد بأن الرجل ليس عليه كفارة بل عليه أن يتوب ويستغفر الله.
الإمام الشافعي ومصر .. لماذا دُفِن في البلد التي استطابت له نفسه الإقامة فيها
السبب الرئيسي الذي أدى إلى وفاة الإمام الشافعي أنه رأى من أصحاب مذهب الإمام مالك التعصب الشديد للإمام مالك ويقومون بتقديمه وتقديم كتابه على الأحاديث التي جاء بها النبي، فلما رأي الإمام الشافعي هذا الفعل منهم قام بتأليف كتاب للرد على مذهبهم المالكي، نظرًا لكون الإمام مالك من البشر والبشر وارد وقوع الخطأ منهم، وفي هذا الصدد أرى أن تخطئة العلماء بعضهم لبعض لا يقلل من شأنهم حاش لله بل ما هو إلا بهدف الوصول بهذه العلوم إلى الحق الذي يرتضيه الله عز وجل، فعندما قام الإمام الشافعي بتأليف كتاب للرد على فقه الإمام مالك ثار المصريون المالكيون بسبب تأليفه لهذا الكتاب وقاموا بمحاربته وسبه بالألفاظ القبيحة الجارحة بالإضافة إلى قيام علماء المالكية بالدعاء عليه، وانتهى به المطاف إلى أن مات في مصر عندما قام بعض المالكية بضربه بالهراوات ضربًا مبرحًا وكان عمره حينئذ ٥٤عامًا.