الحكاية مش حكاية السد (06) .. أثيوبيا بين تأسيسين
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
أثيوبيا
أهلا بينا في حلقة جديدة من حلقات الحكاية مش حكاية السد.. على مدار الـ 5 حلقات اللي فاتوا:
1. اتفاقية مياه النيل.. هل فعلا اتفاقية استعمارية
اتعرفنا على أسباب زعل الشعب السوداني من الدولة المصرية، ووضحنا نقطة بداية المشاكل وأهم محطاتها، عرفنا كمان جذور المشاكل السياسية بين أديس أبابا والقاهرة، عرفنا أمتى وليه العلاقات وصلت لأسوء حالاتها، وخدنا فكرة عن مجهودات الإدارة المصرية الحالية للتعامل مع الورث الصعب ده كله.
دلوقتي بقى تعالوا نحاول سوا نفهم أسباب تعنت الإدارة الأثيوبية، مفهوم أن أسباب العداء موجودة.. بس ليه دلوقتي؟ إيه وجه الاستفادة؟ إيه أو مين مجمد قلب الإدارة الأثيوبية على الملعنة دي كلها؟، قراية المشهد الأثيوبي تقول أن عندنا نوعين من الأسباب.. داخلية وخارجية.
عشان نتعرف ع الأسباب الداخلية مهم يكون عندنا فكرة مبسطة عن تركيبة دولة أثيوبيا.
في البدء كانت أكسوم-الحبشة
الدولة الأثيوبية معقدة سياسيًا ومجتمعيًا، فهي الوريث والأمتداد لمملكة الحبشة التاريخية، بس المملكة الشهيرة ماكنتش بالحجم ده خالص، كانت أكسوم هي العاصمة والجالس على عرشها يحمل لقب النجاشي.. زي كسرى وقيصر وخليفة.. إلخ.
مملكة الحبشة كان مكانها شمال شرق أثيوبيا الحالي، والسيطرة فيها للأمهرة على حساب التجراي ومافيش غيرهم همه الأتنين أثنية تالتة واضحة، دخلتها المسيحية في القرن الرابع الميلادي على أيد أتنين من رجال الدين التابعين للكنيسة الشرقية.
سنة 326م البابا أثناسيوس بطريرك الأسكندرية رسم الأنبا فرومنتيوس أسقف للأبراشية الوليدة.. وفضل التقليد ده قائم لغاية أواخر خمسينيات القرن العشرين، لما انفصلت الكنيسة في أثيوبيا عن الكنيسة الأرثوذكسية.
مِنليك الثاني أو محمد علي بتاعهم
تاريخ أثيوبيا الحديثة فيه شبه من نظيره المصري.. ده طبعا مع فوارق وخصوصية كل تجربة على حدا. الملفت أن كل مرة بتكون التجربة سابقة حدانا ثم تظهر شبيهة لها حداهم.
غير التشابه الديني عندنا تشابه في شخصية المؤسس، زي ما هنا محمد علي حاكم مطلق بداية من 1805.. همه وصل عندهم مِنليك الثاني لعرش الأمبراطورية 1889، الفرق مش بس 84 سنة.. كمان مِنليك كان حاكم وطني مش مندوب لمستعمر أجنبي.
فعلاقة أثيوبيا بالمسيحية كانت دينية وبس.. غير علاقتنا بالإسلام اللي جعلتنا ولاية تابعة لكرسي الخلافة أينما حل.
زي ما محمد علي تحدى الخلافة العثمانية وهزمها وأنتزع منها سلطات وأراضي، خلال مغامرته الأولى، نجح مِنليك في مواجهة الغزو الإيطالي وهزيمتهم في موقعة عدوة مارس 1896(أحد مناطق أقليم التيجراي)، تقريبا الانتصار الوحيد لجيش أفريقي على جيش أوروبي في ذاك العصر. ويعد اليوم ده عيد قومي بيحتفل به الأثيوبيين كل سنة لحد النهارده.
أديس أبابا وحمى التوسع
يعتبر مِنليك التاني مؤسس أثيوبيا الحديثة، فبعد طرده للمحتل الإيطالي .. قاد عملية بناء البنية التحتية والمؤسسات.. وهو صاحب مشروع التوسع جغرافيًا، والملفت بالنسبة لمفارقة التشابه.. فتوسعات أثيوبيا غلب عليها التوجه جنوبًا.
أهمية مِنليك بالنسبة لأثيوبيا مش بس المشاريع الداخلية والتوسع الخارجي، مِنليك أسس أديس أبابا عاصمة جديدة للبلاد، كمان نجح في استثمار الانتصار على إيطاليا في الحصول على شرعية دولية لدولته، ونجحت إدارة مِنليك التاني في الانضمام إلى عصبة الأمم خلال عشرينيات القرن العشرين.
توسع مِنليك على حساب كل جيرانه، ماكنتش دول حديثة بشكلها الحالي إنما ممالك قديمة زي اللي دمرها جيش محمد علي وقت توسعه، أخد أقليم عفر في الشرق وبني شنقول وغامبيلا في الغرب وأوروميا والصومال في الجنوب.. وغيرهم، لغاية ما وصلت أثيوبيا لشكلها الحالي.
التوسع بالشكل ده في قارة زي أفريقيا يعني غالبا ضم عدة شعوب متباينة ثقافيا تحت مظلة دولة واحدة، فبقى عندنا دولى كبيرة الحجم اسمها أثيوبيا وبتفرض سيطرتها على مجموعة كبيرة ومتنوعة من شعوب شرق القارة، شعوب مافيش رابط يجمعهم أو يجعلهم “أمة واحدة”.. كضرورة ملحة في زمن صعود الدولة القومية.
بناء عليه هيمنت القومية المكونة للسلطة في الحبشة قبل التوسع على أثيوبيا بعد التوسع، وبقت إدارة أديس أبابا خاضعة لنفوذ الأمهرة بالأساس وييجي بعدهم التجراي وجَبَرِت على كده، سيادة شبه كاملة لقومية بعينها على حساب باقي القوميات بثقافاتهم ودياناتهم ولغاتهم المتنوعة.
استمر النظام الأمبراطوري في أثيوبيا قائم على الأسس اللي وضعها مِنليك التاني، لغاية ما سقط النظام الأمبراطوري وحصلت شوية أحداث داخلية غيرت شكل الدولة وأحتاجت لما يمكنا تسميته بالتأسيس التاني.
المزيد من التشابه
زي ما مصر عاشت تحرك تنظيم عسكري في 1952م أنهى الملكية وأسس الجمهورية، وتمخضت الأحداث عن وصول عبد الناصر للسلطة بتوجهات اشتراكية ميالة للمعسكر السوفييتي، المشهد شبه أتكرر في أثيوبيا سنة 1974، وبقى عندنا الجنرال مانجستو الموالي للاتحاد السوفييتي.
النخبة الأثيوبية عصر مانجستو تكونت علميًا وثقافيًا زمن الأمبراطور الأخير هيلا سلاسي، فكانت منفتحة على مختلف الثقافات العالمية، الانفتاح الثقافي بالضرورة بينتج أسئلة.. وفي وضع دولة زي أثيوبيا ظهر على الساحة سؤال الهوية.. أو إحنا مين؟
ظهر السؤال في أسوء لحظة ممكنة، مع صعود ديكتاتورية عسكرية بتأسس لدولة مركزية على الطريقة السوفيتية الشهيرة بعشقه لنظرية المريلة وعدائها للتنوع الثقافي أو الأثني.
اعتمد مانجستو خارجيًا على دعم الاتحاد السوفييتي وكوبا وما تيسر من جُند اليمن الجنوبي.. وداخليًا على دعم عرقيته الأمهرة، وبالشكل ده قدر يسيطر. التغيير في السياسة الخارجية أعتمد فيه على حليفه السوفييتي والتغير داخليًا ماكنش كبير.. بدل أمبراطور بقى جنرال والدولة برضه مركزية والعرقية النافذة في السلطة ثابتة بلا تغيير مُخل.
الفترة دي انقسمت بين حكم الجنرالات باسم ديرج/Derg (التنظيم المسلح اللي نفذ الانقلاب)، وبين الحكم المنفرد لمانجستو باسم جمهورية أثيوبيا الشعبية الديمقراطية.
الحقبة دي من تاريخ أثيوبيا شهدت صراعات كتيرة ومتنوعة، خارجيًا كان العدو الأول والأساسي هي الرأسمالية العالمية وديولها في المنطقة، وصف ينطبق بشكل كبير على نادي سفاري المخابراتي (تم التنويه عنه الحلقة 04) واللي كان بشكل ما متورط في الدعم المصري والعربي العلني لحركة التحرر في أرتيريا ولدولة الصومال خلال حرب أوجادين (1977-1978).
وداخليًا كانت الحرب مع حركة تحرير أقليم أرتيريا هي الصداع الأكبر لكن مش الوحيد، لأن قوميات تانية بدءت تتحرك وتطالب بحصتها من السلطة والثروة.. زي قومية الأورمو.
سنة 1990 حصل المشهد اللي السادات قراه من حوالي 20 سنة.. انهار الاتحاد السوفييتي، حدث كان له أثر عظيم على الخريطة السياسية في العالم كله.. لغاية دلوقتي، ألمانيا أتحدت وتشيكسلوفاكيا أتفكت.. شوفنا حرب أهلية وتطهير عرقي في قلب أوروبا، كمان الجنوب تأثر بالحدث الكبير.. وبعد أقل من سنة سقط نظام مانجستو الشيوعي.
الفيدرالية الشكلانية.. أو عصر التيجراي
الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الأثيوبية، ده اسم جبهة المعارضة اللي نجحت في اسقاط مانجستو ونظامه الشمولي، وهي الائتلاف الحاكم منذ التأسيس التاني لأثيوبيا.. وبيتكون من:
- جبهة تحرير شعب التيجراي.
- حركة أمهرة الوطنية الديمقراطية.
- المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو.
- حركة شعب جنوب أثيوبيا الديمقراطية.
الجبهة الثورية أعلنت تبنيها للنظام الفيدرالي، وبالفعل وخلال 4 سنين حصلت تطورات كبيرة في السياسة الأثيوبية.. نقدر نطلق عليها التأسيس التاني.
ميليس زيناوي.. مؤسس أثيوبيا الجديد
1991 أعلن سقوط النظام الشيوعي بقيادة مانجستو وتولي الجبهة الثورية للسلطة، اختير ميليس زيناوي (ابن أقليم التيجراي) رئيسا مؤقتا للبلاد.
1993 انتهت الأزمة مع أرتيريا باستفتاء شعبي قرر فيه شعب الأقليم الساحلي مصيره بالنفصال عن أثيوبيا.. ومصيرها بالتحول لدولة حبيسة.
1994 صدق الشعب الأثيوبي على الدستور الجديد للبلاد، واللي بينص على فيدرالية الدولة وبيدي لكل أقليم حق حكم نفسه بنفسه في ظل حكومة فيدرالية مقرها أديس أبابا، مع النص على حق أي شعب في تصعيد استقلاليته إلى مستوى الحكم الذاتي أو حتى الانفصال عن الاتحاد الفيدرالي العام.
1995 تم بدء العمل بالدستور، وتغير منصب زيناوي من رئيس الدولة إلى رئيس الوزراء.
الجمهورية الجديدة.. أم جمهورية التيجراي
عمليًا هيمن التيجراي ع السلطة في الجمهورية الجديدة، فتاريخيًا همه تاني قومية بعد الأمهرة قربًا من مركز السلطة في أديس أبابا أو حتى في أكسوم، بالتالي كانوا أكتر استعدادا وخبرة في أمور السياسة والحرب.
صحيح اتفتحت المساحة لأبناء بقية العرقيات للمشاركة، بس مع هيمنة تيجرانية ع المناصب العليا.. في الجيش والمخابرات وكل مفاصل الدولة ومؤسستها الحيوية.
ختام..
كان نفسي الحلقة دي أشرح الأسباب الداخلية للتعنت الأثيوبي في مفاوضات سد النهضة، بس زي ما حضرتكم شايفين.. مجرد توضيح نشأة أثيوبيا حرق مساحة قد إيه، كده ع الأقل بقينا عارفين التركيبة السياسية اللي نشأ فيها آبي أحمد، الحلقة الجاية بقى نعرف هو وصل السلطة أزاي وإيه تأثير ده كله على طريقة إدارته لأزمة السد.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال