الدروس الخصوصية وثكنات النصب “السناتر”.. السبوبة التي أطاحت بالمنظومة التعليمية
مع اقتراب بداية كل عام دراسي جديد تبدأ حالة من التوتر بين صفوف الطلاب وأولياء الأمور يسألون هنا وهناك عن مدرسين الدروس الخصوصية “مدرسين مصر الأوائل” كما يزعمون، وتبدأ ثكنات النصب “السناتر” للعمل مجددًا من أجل سحر عقول الطلاب وإيهامهم بنجاح سيبهر العالم بأسره إذا حضروا جميع المواد بانتظام في هذا السنتر دون غيره ومع هؤلاء المدرسين بالأخص، والذين يحرصون دائمًا على اختيار أسماء جذابة لتكون شعارًا لهم ويكأنها حملة انتخابية؛ فذاك عملاق العلوم وهذا فيثاغورث الرياضيات واينشتاين الفيزياء وتنين الأحياء وسيبويه اللغة العربية وسفير اللغة الإنجليزية ونابليون الفرنسية.
لا أبالغ في وصفها بالحملات الانتخابية؛ فكما نرى في هذه الحملات هناك بعض المرشحين يقومون بتوزيع بعض السلع الأساسية على المواطنين ما قد يدفعهم لاختيار هذا المرشح دونًا عن البقية، فكذلك “السناتر” ومدرسين الدروس الخصوصية باتوا يتنافسون فيما بينهم ويستخدمون طرق عديدة من أجل جذب أكبر عدد ممكن من الطلاب والطالبات، فيقومون مثلًا بجلب هدايا قيمة تبهر الحاضرين وتبدأ المنافسات هذا يوزع هواتف “آيفون آخر موديل” وشاشات عرض وهذا يهتم بإسعاد ولي الأمر فيمنح الابنة أجهزة كهربائية لتدخرها في جهازها وهي ما زالت ابنة الخامسة عشر أو يتكرم على الطالب بعمرة لأحد والديه لينول كل الرضا، وتكون هذه الهدايا في بعض الأحيان ما هي إلا مشهد تمثيلي فتُعطى لشخص تابع للمدرس لتكون الحبكة في غاية الروعة دون أي خسارة مادية حيث تُسترجع الهدية من هذا الشخص الصوري بعد انتهاء المسرحية.
تفاقم الأمر وأصبحت المنافسات غير شريفة وباتت أشبه بالحرب حيث عينت “السناتر” و “المدرسين” بعض الطلبة كجواسيس لهم عند منافسيهم فيطلعون على أخبارهم أول بأول ويتتبعون ثغراتهم ليتداركوها هم ويحاولوا إسقاط منافسيهم بها، والأسوء من ذلك استخدام “السناتر” وأشباه المدرسين لأدوات قذرة لجذب الطلاب من خلال الاعتماد على الجنس الناعم في فريق العمل “الأسيستانتز”، وانتقاؤهن بحرص شديد من حيث نسبة الجمال وطريقة اللبس التي من الأفضل أن تكون ملفتة بعض الشيء، وذلك استغلال بذيء لفترة عدم الاتزان الكامل في مرحلة المراهقة للطلاب.
كما يعتمدون أيضًا في فريق العمل على الشباب بالطبع لكن يفضل أن يكونوا ذو شخصيات جذابة “رِوشين” ويلبسون الملابس “الترندي”، ولا بأس بأن تنشأ علاقات سفيهة يطلقون عليها “حبًا” بين الطلبة وأعضاء فريق العمل الذين عادة ما يكونون بأعمار متقاربة مع هؤلاء الطلبة حتى يتفهمون طبيعة التعامل معهم، وفي النهاية كل هذه عوامل لجذب عدد أكبر من الحضور ودعك من الضمير والشعور بالمسؤولية تجاه هؤلاء الطلاب.
من المؤسف أن هذا النوع من الدروس الخصوصية ساعدت بشكلٍ كبير في محو قيمة العلم والتعلم عند الطلاب بل وساعدت أيضًا في التقليل من شأن المعلم الذي كنا نقف له احترامًا وتبجيلًا منذ بضع سنوات بل ونرتجف خجلًا مما بدر منا من تقصير، فبعد أن أصبحت هذه الدروس محلًا للرقص والغناء بحجة تبسيط المعلومات ضاعت هيبة المدرس، وهو ما لا يخفى على أحد فقد بدأت الأفلام والأعمال الدرامية في تجسيد هذا النموذج من المدرسين.
أما الآن وبعد استفحال البلوجرز ومشاهير السوشيال ميديا واقتحامهم لحياتنا، بدأت سبوبة جديدة في “السناتر” بالتعاون مع “مدرسين مصر الأوائل” لعقد اتفاق مقابل المال بينهم وبين هؤلاء المشاهير المحببين إلى هذه الفئة العمرية من الطلاب، فهناك من يتعاقد على سبيل المثال مع “مارد ڤودافون- الساحر كريس المصري- صاحب أطول شنب- أبانوب فليكس- علاء الأفريقي بتاع الممنوعات”، فتمتلأ القاعات بالحضور من أجل قضاء أوقات ممتعة مع أحد المشاهير، وحاليًا نَحي المادة العلمية جانبًا فالهدف الأسمى هو ازدياد عدد الطلاب.
ولأن سبوبة الدروس الخصوصية فاقت إيراداتها الملايين دون مبالغة، أصبح يتسابق الكثير من الناس لدخول هذا المجال فهناك من لم يتعلم طرق التدريس أو كيفية التعامل الصحيح مع الطلبة، ولم يحصل على مؤهل يجعله على دراية بمتطلبات المهنة كأن يكون خريج كلية تربية مثلًا لكنه اقتحم هذا المجال في سبيل كسب المال، بل إن هناك من أصحاب المؤهلات العالية من تركوا مهنهم المهمة كالطب والصيدلة والهندسة من أجل دخول هذا العالم الساحر الذي يَعدْ صاحبه بالمال والشهرة لا محالة.
انتقلت هذه السبوبة من بين جدران “السناتر” إلى فضاء الإنترنت الواسع بعد جائحة كورونا، فأصبح مدرسين الدروس الخصوصية منشؤوا محتوى على “الفيس بوك” و”التيك توك” و”اليوتيوب”، وبدأوا يتنافسون في ابتكار كل جديد وإتباع الترندات لزيادة عدد المشاهدات والتفاعلات مع الترويج لحصصهم، بل وقاموا بإنشاء منصات تعليمية خاصة بهم فإن فات الطالب إحدى الحصص لسبب ما، لا يشغل باله حيث يمكنه الدفع إلكترونيًا والحصول على الدرس الذي فاته والذي تم إنتاجه بأدوات تقنية عالية “كاميرات- إضاءة- مونتاج”، فنستخلص من هذا أن المدرس “كده كده كسبان”، ولا داعي أن أذكر لك الأسعار الخرافية للكتب الخاصة بكل مدرس والذي يتحتم على الطالب شراءه شرط دخول الحصص، ما يكلف ولي الأمر فوق طاقته.
وخلال الأعوام الماضية عندما ظهرت في الإعلام العديد من المشاهد الغريبة على الساحة التعليمية من قِبل القائمين على هذه السبوبة كدخول أحد هؤلاء المدرسين حصة المراجعات النهائية المقامة في أحد النوادي الاجتماعية أو في دور السينما بسبب العدد المهول للطلبة متفاخرًا بأسطول من سيارات “مرسيدس” برفقة “بودي جاردز” وكأنه رئيس جمهورية، تسببت هذه المشاهد في استفزاز الكثير من الناس في ظل التكاليف الطائلة التي حَنت ظهر ولي الأمر، واعتقدنا أن الرفض العارم لهذه المشاهد قد يكون دافعًا لتخلصينا من هذه الأزمة وحلها من جذورها لكن لا جدوى، غير أن يقوم الحي بالمناطق بمداهمة هذه “السناتر” وتشميعها من حين لآخر بحجة مخالفات بيئية، وبمرور بضعة أيام وبعد دفع مبلغ معين من المال تعود المياه لمجاريها وكأن شيئًا لم يكن.
توضيحًا.. لا أقصد من مقالتي هذه التقليل من شأن هؤلاء المدرسين بالكلية، فمن المؤكد هناك ثلة قليلة تلتزم بآداب المهنة لكنها للأسف كقطرة ماء عذب في ملح أجاج، وأرى أن السبب في هذا الحال المأساوي الذي نعاني منه يرجع بالأساس إلى إهمال دور المدارس والتغاضي عن استوفاء حق المعلم بالمدرسة الذي لم نعهد عليه أي تقصير في زمننا بل كان هو ملجأنا الوحيد في حل المسائل التي يستصعب علينا فهمها حتى قبل دخول الإنترنت إلى المنازل، ولم نحتاج بعد شروحات الحصص المدرسية إلى دروس خصوصية أو مجموعة كما كانت تسمى حينها إلا نادرًا، ويتلخص الحل من وجهة نظري في إعادة إحياء المنظومة التعليمية بكل أدواتها حتى تعود إلى مهامها المنوطة بها والتي كانت تقوم بها على أكمل وجه، ولتنتهي هذه السبوبة إلى الأبد.