الدين والنكسة خلال أسابيع التعبئة المعنوية قبل 5 يونيو “قصص الدعاية والفعاليات”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تتوارى ثنائية الدين والنكسة في ملفات تاريخ الدعاية المعنوية التي نفذتها مصر في الفترة التي تلت قرار إغلاق خليج العقبة في مايو 1967م، وعلة ذلك أن توثيق الباحثين كان مقتصرًا على الخطاب الإعلامي والفني.
الدين والنكسة في عملية الدعاية قبل 5 يونيو
على الصعيد الشعبي فإن بروز الدين خلال عملية التعبئة المعنوية فنيًا كان موجودًا في الأغاني، مثل أغنية الله معك التي غنتها أم كلثوم، وكتبها صلاح جاهين، وفيها قام جاهين بتشبيه جنود جيش العروبة بـ الرسول في كوبليه (راجعين سيول من الصحاري للسهول * زي الرسول يا شعب جالك ينفعك الله معك)؛ وتلك القصيدة قال عنها صلاح جاهين أنه مكث في تأليفها 6 سنوات لأنه كان يريد أن يكتب عن فلسطين وقدم جزءًا من الأغنية إلى أم كلثوم ومنشور في ديوانه القمر والطين، لكن الأغنية بقيت عندها حتى خرجت للنور مع بداية المعركة وبدأ إكمال القصيدة في يوم واحد لكي تكون جاهزة للتلحين.[1]
ملمح آخر من مظاهر دمج الدين في الدعاية، ظهر في الإعلان المنشور على جريدة الأخبار من المؤسسة المصرية العامة للصناعات الهندسية، حيث قامت الشركة بتحريف جزء من آية قرآنية تقول «لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ» – (سورة التوبة: 25)؛ وكان مكمن التحريف حذف حرف الميم من كلمة (نصركم) وجعل الكلمة (نصرك) في إشارة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وأرفقت الشركة وصفًا بعد التصديق على الآية بقولها «وسينصرك في موقفك البطولي من مؤامرات الاستعمار والصهيونية».[2]
المؤسسة الدينية الرسمية وغير الرسمية في التعبئة قبل 5 يونيو
إن كانت النقابات المهنية جمعاء في مصر على خط التعبئة المعنوية قبل 5 يونيو، فإن المؤسسة الدينية الرسمية ممثلةً في الأزهر قد اتخذت نفس الموقف دينيًا من المسألة وتم إعلان فتوى بأن التخلف عن نصرة الحرب هو خروج عن الإسلام.
أما المؤسسات الدينية غير الرسمية كانت على نفس الخط، والقصد بذلك مثلاً الطرق الصوفية، فالدولة اتخذت مسمى التعبئة العامة إعلاميًا كما ذكر ذلك محمد فائق وزير الإرشاد حينها[3]، بينما الطرق الصوفية أطلقت مصطلح التعبئة الروحية وهو تعبير أطلقته العشيرة المحمدية التي أسسها الإمام الصوفي محمد زكي الدين إبراهيم، ونشرته في عدد مجلة المسلم التابعة لها.[4]
مشيخة الطرق الصوفية نظمت مؤتمرًا ضم مشايخ الطرق ووكلاءها ونوابها في مصر لتنفيذ عملية التعبئة الروحية والتوعية بالواجب الديني والوطني والقومي، وأعلن المؤتمر أن هناك نفيرًا للجهاد المقدس وأن من يتخلف عن الجهاد لا عذر له، وأن شعار المعركة هو اقتل عدوك أو مُتْ عملاً بقوله تعالى وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وأن غير القادر على الانضمام للجيش عليه أن يدعو له ويرغب في الجهاد ويكافح الشائعات.[5]
أما العشيرة المحمدية فقد عقدت مؤتمرها الثاني في 26 مايو سنة 1967م وخرج بـ 9 توصيات سياسية ودينية، من حيث تكرار البيعة للرئيس جمال عبدالناصر وإعلان حملة التعبئة الروحية والتوعية الفكرية بالجهاد وحتمية التبرع، وتعاون أفراد العشيرة المحمدية بتشكيلات الاتحاد الاشتراكي، ومناشدة الإعلام في خدمة المجهود الحربي.
والملمح الديني في توصيات مؤتمر العشيرة المحمدية كانت موالاة القنوت والدعاء في الصلوات الخمس وملازمة الابتهال لله بمد الجيش وجمال عبدالناصر ورجاله بالنصر؛ واقترحت الجمعية أيضًا إلغاء سرادقات إحياء المولد النبوي الذي كان مقررًا أن ينعقد في 20 يونيو 1967م والاكتفاء بإحياءه في المساجد الكبرى.
ما بعد الكارثة
وقعت الكارثة في 5 يونيو ولم يعرف المصريين حقيقتها إلا بعد 4 أيام عندما خرج جمال عبدالناصر في خطابٍ تلفزيوني معلنًا تنحيه في 9 يونيو، وبعد خطاب التنحي كان أول لقاء عابرٍ بين الشعب وعبدالناصر يوم الإثنين 11 ربيع الأول 1387 الموافق 19 يونيو 1967 م حيث شارك في احتفالات مصر بالمولد النبوي.
وصل موكب عبدالناصر وكان في انتظاره شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون والشيخ محمد علوان شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ووفد من كبار علماء الأزهر والأوقاف والصوفية، وكانت الجماهير تنتظر عبدالناصر بالهتاف فهتفوا “الله أكبر .. الله أكبر .. والنصر للعرب والمسلمين ..حي على الكفاح”، ثم جلس عبدالناصر ومرافقيه بعد أداء ركعتي تحية المسجد، و دخل جمال عبدالناصر غرفة ضريح الإمام الحسين وقرأ الفاتحة هناك، ثم خرج لصحن المسجد واستمع لآي الذكر الحكيم وقصة السيرة النبوية، ثم ألقى الشيخ عبدالحكيم سرور كلمة الأزهر وبعده الشيخ محمد علوان شيخ الطرق الصوفية، ثم كلمة مدير المساجد الشيخ إبراهيم الدسوقي، وامتدت الاحتفالية حتى الساعة 9:20 مساءًا.[6]
شهدت المناسبة دمجًا بين الدين ورفع الروح المعنوية المنهارة، فمثلاً الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم مؤسس العشيرة المحمدية كتب في مقالٍ له بعنوان «إلى الله أيها الرجال، إلى ميثاق الله والميثاق الوطني»، أن المعركة لا زالت في بدايتها وخسارة جولة لا تعني خسارة المعركة نفسها[7]، والمجلة نفسها على صفحة الأخت المحمدية قالت «إلى السيد الرئيس نقول لك قول سعد بن معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: امض لما أردت، فلو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا أحد وما نكره أن تلقى بنا العدو غدًا، وإنا لصبر في الحق صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله».[8]
ولم يتوقف استخدام الدين في دعم جمال عبدالناصر بعد النكسة عند مسألة التعبئة الروحية، بل وصل إلى حد الترويج إلى تدين عبدالناصر نفسه، إذ تم إطلاق عليه لقب الرئيس المؤمن، وكان الصحفي إبراهيم سلام هو أول من أطلقه عليه عبر مجلة الشبان المسلمين.[9]
لم يتخذ جمال عبدالناصر موقفًا سلبيًا تجاه الدعم الديني قبل أو بعد النكسة، لكنه اعترض على ثمة أمور صدرت من الشيخ عاشور محمد نصر إمام مسجد المرسي أبو العباس والذي حضر بصفته ممثلاً عن محافظة الإسكندرية في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي يوم 3 ديسمبر 1968م، بعد أيام من اندلاع مظاهرات الطلاب، وفي المؤتمر قال الشيخ عاشور «أن الطلاب لا يعانون من فراغ فكري ولا ثقافي ولا سياسي، إنما يعانون من فراغ ديني والمسؤولية ليست عليهم وإنما على جميع الحاضرين هنا، والذين يتكلمون عن الاشتراكية لا ينفذوها، أحد الرجال يأتي بعربية ثمنها 7 آلاف جنيه وخاتم ب200 جنيه، والستات بتدخل الجوامع بالميني جيب، مهم أن لا نرى القيم الدينية قوانين فقط وإنما نريد أن نراها مطبقة وفعالة».
جمال عبدالناصر تدخل عقب انتهاء كلمة عاشور محمد نصر وذكر بأن كلمته كانت مفيدة لأنه قام بالترفيه عن الحاضرين في هذا الاجتماع، ثم قال «أنا أعتبر أن بلدنا من أكثر البلاد تمسكًا بالدين، هذا باعتراف كل الناس فى الحقيقة أن الثورة عملت من أجل الدين، وأنا أقول برضه للشيخ عاشور وأمثاله إن ده شغلهم اللي بيأخذوا عليه ماهية واللى بيأخدوا عليه فلوس واللي مفروض إنهم يدعوا ويبشروا من أجله، ولكن بالأسلوب السليم مش بالأسلوب القبيح اللي اتقال النهاردة، أما الكلام عن الميني جيب ده الحقيقة غير معقول، وأنا أعتقد أن الكلام ده إذا اتقال في مسجد أبوالعباس، والناس ضحكت زي إحنا ما ضحكنا النهاردة تبقى العملية هزلية وليست عملية جدية».
لم يفوت جمال عبدالناصر أن يدقق فيما طرحه الشيخ عاشور إذ اتهمه بالكذب يوم 12 ديسمبر 1968م في اجتمال اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي وقال «الشيخ عاشور بيقول إن فيه ناس بتلبس خاتم بألفين جنيه، هل فيه حد هنا لابس خاتم بعشرة جنيه .. وَلاَّ بعشرين جنيه ؟، وأنا ماشفتش حد لابس خاتم بألفين جنيه أبدًا – من أول الثورة لغاية دلوقت – يعنى يمكن فيه ستات لابسين .. لكن ماشفتش راجل لابس، العربية طبعاً .. يعنى بيقول : عربيه بـ 7000 جنيه.. مافيش – الحقيقة – النهارده عربية بـ7000 جنيه، العربيات أرخص من كده بِكْتِير، أمثال الشيخ عاشور ده كتير أوي في داخل الاتحاد الاشتراكى، لأن ده عضو مؤتمر قومي، مـع إنه وقف كِذِب وقال إنه واعظ، وهو ليس بواعظ، قالوا إنه مقيم شعائر بالمسجد».[10]
[1] إيزيس نظمي، لقاء جديد بين أم كلثوم وجاهين بعد لقاء المعركة، مجلة آخر ساعة، ع1702، يوم 7 يونيو 1967م، ص37.
[2] جريدة الأخبار، ع4 يونيو 1967م، ص6.
[3] محرر، صورة الاستعدادات داخل الإذاعة والتلفزيون، مجلة آخر ساعة، ع1701، يوم 31 مايو 1967م، ص37.
[4] محرر، مجلة المسلم، مج17، ع8، غرة ربيع الأول 1387هـ / 9 يونيو 1967م، ص3.
[5] محمد زكي الدين إبراهيم، كلمة الرائد .. نفحات من الخلد الأعلى حول الجهاد المقدس، المرجع السابق، ص ص5–11.
[6] وسيم عفيفي، مصر في أول مولد نبوي بعد النكسة .. توثيق أحداث اليوم الخانق رغم روحانياته، موقع الميزان، 18 أكتوبر 2021م
[7] محمد زكي الدين إبراهيم، كلمة الرائد .. إلى ميثاق الله والميثاق الوطني، مجلة المسلم، مج17، ع9، غرة ربيع الثاني 1387هـ / 8 يوليو 1967م، ص ص5–7.
[8] المرجع السابق، ص17.
[9] إبراهيم سلام، جوانب من صور الإيمان في حياة الرئيس المؤمن جمال عبدالناصر، مجلة الشبان المسلمين، ع125، ربيع الثاني 1387هـ / يوليو 1967م، ص4.
[10] وسيم عفيفي، «هل اعتقله عبدالناصر» عندما قال الشيخ عاشور محمد نصر: الستات بتدخل الجامع بالميني جيب، موقع تراثيات، 4 يوليو 2023م
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال