همتك نعدل الكفة
88   مشاهدة  

“السنوية الأولى لرحيل السيد إمام” حديث المنامات.. المحبة الفسيحة كأحضان سفر مشتهى!

السيد إمام
  • - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد



في 29 مارس من العام الميلادي الماضي 2023 لقي السيد إمام ربه عن عمر ناهز الثمانية والسبعين عاما، المترجم والناقد والمفكر والكاتب الكبير، وهو التاريخ الموافق للسابع من رمضان من العام الهجري السابق 1444، هكذا يجب أن نوثق وفاة رموزنا الثقافية، زمنيا، بالمضبوط، كما يجب أن نوثق حياتهم طبعا، كنت في إجازة من الفيسبوك حينها، إجازة اعتدتها في الحقيقة تخففا من البرنامج الضاغط الذي لا يكف عن الكلام، الكلام الذي يفتح أكثره كلاما آخر، الكلامان بلا قيمة إلا في الندرة، فتحت صفحتي فور علمي بالخبر الصادم المؤسف، فتحتها لأشارك الأحباب في العزاء، أما لماذا كان الخبر صادما وأنا أعرف الحقيقة الصحية الصعبة للصديق الكبير؟!؛ فلأنني تمنيت أن يشفى من السقام، ورغبت أن يستمر لأقصى مدى ممكن، لكنه آثر الانتقال إلى شاطئ شغله كثيرا أن يكتنه قطرات بحره وذرات رماله وحالات الدراويش اللائذين به..

اقرأ أيضًا 
أربعينية الشيخ الفذ.. ما لم يقله المترفون عن الزاهد السيد إمام

كنت حينها، أتذكر اللحظة البعيدة كأنها بالأمس القريب، مهموما بالأخ الغالي طارق إمام؛ فعلاقته بأبيه عميقة للغاية، على عكس ما يتوهم الذين يرونه في القاهرة ولا يرونه في دمنهور حيث يقيم أبوه، ومن امتداد صحبتي مع طارق علمت أنه يقبض عواصم بلاده المصرية قبضا محكما من العاصمة الأم، وليس وهو في القلوب من البلاد، بلده العزيز في الصدارة طبعا، وعلى هذا يكون في حضرة والده بالتمام ما دام في القاهرة!

السيد إمام

نشأ السيد إمام، ذو الجذور الجنوبية، في عاصمة محافظته “البحيرة“، وقضى هناك أطول عمره، مثلما يحكي طارق، أو مثلما أتصوره يحكي للأمانة، ولكن مدد معارفه بلغ عاصمته القاهرة، ومنها إلى شقيقاتها العربيات بالبداهة، وملأ جيوبهن كنوزا على كنوزهن، فوق ما بلغ مكانه الأقرب وملأه، مكانه الذي أخلص له وتفاني في خدمته؛ ولذا آل إلى قاهري حيث يقيم، والقصد أنه حفظ جميل القاهرة التي أنالته نجوميتها دون أدنى تخطيط، وسما بهمته إذ عزلت براءته الشخصية هذه النجومية عن أمراضها المزمنة الفتاكة، وقدر ما امتن للقاهرة بقي سلس العشرة والأسلوب كنشأته وجذوره.

السيد إمام

طارق، بالمناسبة، أهم كتاب وضعه السيد إمام، السيد الإنسان النبيل السخي الرهيف، والسيد بصفته الأدبية والفنية الباذخة، وما شاكلها من الصفات، وبالنسبة إلى طارق نفسه فالسيد إمام هو روايته المستحيلة، الرواية التي يمكنه كتابتها، أفضل من الروائيين الجهابذة جميعا، وهو جهبذ مثلهم، لكنه يفضل ألا يكتبها حتى لو سمحت له الظروف بالتفرغ لها؛ ذلك أنه أدرك مبكرا أن سيرة الوالد ومسيرته قد تقالان، خفيفا، في حفل تأبين أو ندوة تكريم أو جلسة أخوية دافئة، أي اختار الحفاظ على أسرارهما المنيعة من الانكشاف، أسرارهما التي هي أسرار وطن وعَالَم (الإنسان العادي وطن وعَالَم (أي يلتقيان في شخصه، ولو  نسبيا، لمحدودية استيعابه)؛ فالأحرى أن يكون الإنسان فوق العادي كذلك، وأن يلتقي الوطن والعالم في شخصه التقاء مطلقا يناسب رحابة آفاقه وشموليته وفهمه لجميع معاني ما يقال ويحدث).. السيد إذن وطن عظيم الحضارة وعَالَم غزير الحداثة، يتطلعان كلاهما إلى الحرية والعدل؛ ليمحوا من صفحات الأيام عاري القهر والظلم الطويلين، إنهما كيانان مصانان، مهما عكر صفوهما الفساد وليد الفوضى، وهددت أمنهما الحروب بنت الأطماع؛ فلا يصح كشف أسرارهما الذي به قد تنكشف مقاومة خاصة جبارة للقبح، نما وردها الفواح بداخلهما، ومن الأحسن ألا تنكشف؛ لئلا يصنع الخراب عملا خبيثا مضادا، والسيد كان كوصفهما بالضبط، وأبلغ وصفا..

لأن القلم استحضر السوشيال ميديا آنفا؛ فأنا لم أقبل عبث برامج التواصل الاجتماعية، ولا نزقها، ولا هيمنتها الطاغية، إلا لعدم مفارقة الصحبة الموهوبة الشيقة، وإلا لوجود رجل كالسيد إمام قرر أن تكون له صفحة هناك (طليعية واثقة، عاجة بالبراهين المدهشة المحفزة إلى الإيمان بقضاياها التقدمية، والأخيلة الجامحة فاتحة أبواب التغيير)، رجل يستند على العلم والعقل وينتمي إلى التنوير والتثوير، أراد سواه أن يديروا الأيام، من المنطقة المظلمة، بمواريثهم الجاهلة وأذهانهم العاطلة عن العمل، في حين أنه أراد إدارتها من فحوى الإشراق، وفحوى الثورة، بعلمية وعقلانية قاطع حكمهما، وتفاؤل يحل المشكلات المستعصية.

نجح السيد إمام فيما ابتغى لأرضه وناسه، ومنهما لسائر الأرض والناس، وما ابتغي سوى الخير العميم ماحق الشرور الوفيرة، نجح في نصرة أفكاره بقوة الحجة والمنطق، والإصرار على الطرح المبتكر الجريء المناوش لتوجهات المجموع التقليدية، ولو كان أخفق أحيانا فليس لأنه هو أخفق؛ ولكن لأن طغمة غبية من البشر اعتبرته مناهضا للدين في سيطرته الخالدة على الدنيا، ومعارضا للأخلاق في ضبطها السرمدي للمجتمعات، وقد كان مناهضا للفقه البائس لا الدين القويم، ومعاديا لمحاكمة الآداب والفنون وسائر الأنشطة بمنظومة أخلاقية صارمة عمياء، إنما يؤمن بالسجايا الطيبة اللينة المبصرة، ويراها ذات الثقل والرجحان..

السيد إمام

عقب وفاته أتاني السيد في المنام ثلاث مرات متواليات بالضبط، الحلم كان واحدا يتكرر حصوله بفوارق طفيفة، لا تقدم ولا تؤخر في سرده، كاد الفضول أن يعصف بي حينها؛ فلم أكن أصدق موضوع التكرار الحلمي قبل أن أعاينه. ما هذا الحلم الناصع المزلزل حقا؟ ما هذه الروح القوية التي فيه؟.. بيت بسيط في مكان به شجرة بارزة، من رآها لا ينساها بتة، ومنضدة عليها دفتر وقلم، يخرج السيد من البيت بملابس نصفها للخروج ونصفها الآخر للداخل (!)، يجلس ويكتب شيئا في الدفتر، ثم ينظر إلي نظرة عميقة، ونظارته مائلة إلى الأمام قليلا، ويدعوني إلى قراءة ما كتب وتأمل ما كتب، وأنا أقرأ وأتأمل شاردا عن الحروف المكتوبة وظلالها ومغازيها، كمن أمارس العبث، سائلا نفسي: أهو خارج أم لا؟! يعود بعدها ليسألني عن رأيي فيما قرأته وتأملته، يعود بنفس زيه، البلوفر الصوفي الأزرق الذي للخروج وبنطلون البيجامة المخطط الذي للبيت (وجيها كان في جميع الأحوال)؛ فيكون السكوت الخجل جوابي الصائت المسموع، يبتسم حانيا غير مبال، ثم يكتب شيئا جديدا يدعوني إلى قراءته وتأمله أيضا، ويدخل البيت.. (كان يفعل ذلك دواليك في كل مرة)، إلى أن انقطعت الأحلام التي تخص أحواله العجيبة، الأحلام المتطابقة التي مجموعها حلم واحد كبدايتي للكلام، وغاب عني مشهده المنامي اللطيف كمن كانت له مهمة أداها، وعاد إلى غيوبه مطمئنا!

إقرأ أيضا
العشاء

السيد إمام

في المرة الأخيرة تبينت أنه يلاعبني لعبة جميلة لكنها معقدة، يلهيني، بملابسه المتناقضة، عن قراءة ما خطته يده وتأمله؛ فأقع في الارتباك حين يسألني عن محصلتي النهائية، ولأن الانتباه يحدث بتركيزي فيما يدور؛ فمن ثم يهتدي خطوي إلى السير باتجاه ما يدعوني إليه لا ما يحيط بالدعوى مهما كان لافتا، إنه يبتليني ليرشدني، هكذا فسرت الأمر بطريقة ما، طريقة تعامل الرؤى المنامية كالألغاز والأحاجي، وتحلها كحلهما، وسيلة كهذه الوسيلة تقريبا، لا شأن لها بالعلوم الباطنية وما إليها إلا قليلا قليلا، خمنت، بعد ذلك، أنه غالبا عرف هناك شيئا شديد الأهمية، ربما كان يعرفه ابتداء واستيقنته طاقته الكوكبية المتوقدة في الملأ الأعلى، شيء قد يبدو واضحا لكنه ليس بالواضح، والغفلة عنه قد تكون مهلكة، لكنني لم أدرك حينها لم اختارني بالذات لبث خبره ونقل خبرته، غير أن المحبة التي كانت بيننا، المحبة الفسيحة كأحضان سفر مشتهى، سرعان ما شرحت لي الحقيقة حينها: ربما أنا في ورطة معنوية، ولا أشعر بتة، والدليل على ما أنا فيه كامن فيما رأيته مرارا، بالإضافة إلى كمون طريقي الآمن للخلاص، أوصلهما هو إلى قلبي بلهفة وفية نادرة، تخاف علي من خطر محدق وتتلحح أن أحاذر منه.. (ما لبثت آنذاك أن عينت مأزقي وحاصرته، وعاملته بحكمة وأناة، وفي الآخر سلمت منه وغنمت درسه).

السلام على السيد الملهم بوعيه النافذ حيا، والمتجلي برسائله المنقذة ميتا، ذي العلامات الحميمة الباقية، السلام على بنائه الراسخ الباسق، عاش ما عاش زاهدا فيما فتن الآخرين حصاده، ومضى، لما مضى، ولا دنايا معه.

الكاتب

  • السيد إمام عبد الرحيم طايع

    - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان