الشاهد .. لعبة النَفَس الطويل
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يا ريس المركب يا حلاوتك .. ياللي سواقتك عجباني
من كُتر خوفنا على راحتك .. هنشوف لها ريّس تاني!
هكذا ألقى الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي ما في جُعبته قبل 30 يونيو 2013 بأيام قليلة، مُحذرًا الرئيس الأسبق محمد مرسي من حركة الشعب المصري، ومُبشرًا بفجر جديد ستشرق شمسه على مصر بعد العام الأسود، الكالح، الضبابي .. ذلك عندما امتدّت براثن الشيطان لخنق مصر والإجهاز عليها ، وهَدم الدولة، والزج بالبلاد في آتون الدم، وإشعال الفتن، وتدمير الكنائس والمساجد والأديرة، والسقوط في مستنقع التفكيك الذي لا يخرج منه كائنًا من كان، وفتح بوابات الجحيم على شعب الطيبين .. ولم يكن الأبنودي مبالغًا في سطوره، وبالفعل، هدرت الأمواج الشعبية من الإسكندرية إلى الأسوان، و (شافوا) لها ريّس تاني!
في الغرف المغلقة -التي لم تعد مُغلقة- كان خبراء الجماعة المحظورة، والذين أدركوا قبل أشهر من ثورة 30 يونيو أن نهاية مكتب الإرشاد قد حسمها الشعب المصري وتبقّى فقط كتابة السطر الأخيرفاستبقوا الأحداث وهرب منهم من استطاع الهرب وألقوا بصفوف السُذّج في مواجهة غضبة الشعب المصري، في هذه الغُرف كانوا قد جهّزوا الخطة (ب) .. أي ماذا نحن فاعلون إذا استطاع الشعب المصري اقتلاع الرئيس الماريونت الذي تُحرّك خيوطه في الاتحادية أيادِِ من المقطّم؟ .. وكان الارتكان إلى القاعدة المصرية الشهيرة “الزَّن ع الودان أمرّ من السحر” ، واللعب على النَفَس الطويل، وانتهاز فرص الفتور في المشاعر الوطنية للانقضاض على الشعب المصري كفريسة بين فكي الذئب الإخواني، وانبرَت الجماعة في خلق منصات إعلامية صغيرة ضمن ترسانة إعلامية كبيرة، وتفعيل المنصات الإعلامية المباشرة والغير مباشرة الناطقة بالعربية وغيرها من لغات، وحشد كل الأصوات والأقلام والطاقات التي تصلح للخيانة، والشرب من بئر الدم، وبث السلبية والكآبة والنكد وتكدير المزاج العام، وتنغيص الأيام –الثقيلة بطبيعتها- على الناس، وتلطيخ الصورة المصرية باللون الأسود .. وبدأت الحرب الإعلامية منذ أن زغردت المصريات في الشوارع برحيل الجماعة.
وغير خافي على الجميع ذلك المحتوى الإعلامي الإخواني الذي لم ينفك طوال عشرة سنوات ممتدة عن بث الشائعات، والتهديد بسقوط الدولة، بل والتهديد المباشر على الهواء بالقتل والسفك، والتحريض على الخراب، والحض على اليأس، وضرب الوعي في مقتل، مُستغلين في ذلك أمراض الدولة المصرية المستوطنة لمئات السنوات تارة، وارتخاء النخبة الإعلامية والثقافية، وشبكة المصالح التي تجمع أطياف من تلك النخبة مع الجماعة ومنتجاتها الإعلامية تارة أخرى، ولكن الوعي المصري الفطري، وعمق الشخصية المصرية الضاربة بجذورها في التربة لمدة سبعة آلاف سنة كان كافيًا للفظ كل هذا السواد والحقد، واستبدالهم بالرصانة والعقل في مواجهة المشاكل اليومية المصرية، ومرًّت العشر سنوات.
ولأن القصة مِلك راويها، وإن لم تحكي حكايتك بنفسك سيحكيها غيرك، كان لابد من فيتامينات للذاكرة المصرية المستهدفة من الآلة الإعلامية الوحشية على مدار الأربعة وعشرون ساعة، وقد قَص الإعلامي الدكتور محمد الباز فكرة برنامجه “الشاهد” في لقائه التليفزيوني مع الإعلامية أميرة بهي الدين في برنامج “افتح باب قلبك”، والتي رآها ضرورة عندما نظر لابنته الصغيرة وسأل نفسه عما إذا كانت ستجد المصادر الصحيحة التي ستكشف لها حقيقة ما جرى في تلك الحقبة التي تغص بالأحداث المُلغزة التي أغرقتها الروايات المدفوعة والمأجورة وأصبحت الحقيقة فيها عملة نادرة لا يمكن اصطيادها بسهولة من بحور الإعلام المُغرض، هل ستجدها عندما تكبر؟، وكان برنامج “الشاهد” بتعدّد ألوان ضيوفه وتخصصاتهم بمثابة استدعاء لروح 30 يونيو، والتأكيد على حقيقة ما حدث في أن المجتمع المصري بكل أطيافه قد تحرّك مسبقًا مستدعيًا الحركة الرسمية، لا كما تروّج أبواق الجماعة محاولين تصوير بأن 30 يونيو كانت محض صدفة، وأن الشعب المصري كان نائمًا في مخدعه واستيقظ صباحًا متفجائًا بثورة في شوارعه!
يقول الناقد الأدبي الكبير، الدكتور يسري عبد الله، في إحدى حلقات “الشاهد”: ثورة يونيو ثورة ثقافية بامتياز، وأن ثمة خيانات ثقافية قد حدثت قبل وبعد وأثناء حركة جموع المصريين لكنها لم تؤثر على الكتلة الثقافية الوطنية الصلبة، وأنه لولا تلك الثورة لكُنّا عشنا مأساة تاريخية، وبالتالي فإن تلك الثورة تعد بمثابة الخلاص من كل هذا الجحيم الحقيقي، وأنه قد عاش حزنًا كلما تذكّره تمنى ألا يعيش مثله أبدًا، وذلك حين كان في طريقه لجريدة الحياة بوسط البلد، وشاهد مظاهر “جمعة قندهار” حين خرج المتطرفين من الكهوف للسيطرة على البلاد.
وتقول الروائية د. لميس جابر في برنامج “الشاهد” : عندما أدركت أن محمد مرسي أصبح رئيًسا للبلاد، تجمدت في مكاني حوالي ساعة، ثم انفجرت في نوبة بكاء مرير، وقُلت بالنص أن “البلد راحت”، وتسائلت في استنكار: كيف لهذا الرجل أن يصبح رئيس مصر؟ .. ولكن سرعان ما أدركت أنهم لن يكملوا عام في سدة الحكم، ودخلت في رهان مع زوجي الفنان يحيى الفخراني الذي كان متوقعًا أن يتسمر الإخوان في الحكم لمدة 50 عام على الأقل بسبب الدعم الخارجي لتلك الجماعة.
وسرد الشيخ علي جمعة شهادته في برنامج “الشاهد”، على ثورة 30 يونيو الذي وصفها بـ “يوم من أيام الله”.. هذه السردية التي كشفت أن معركة الشيخ مع الجماعة لم تبدأ في 2013 فقط، بل بدأت المعركة في السبعينات، حين أفرج الرئيس السادات عن الإخوان المسلمين، وأخرجهم من السجون .. ورأى الشيخ أن هذه جماعة “ضلّت الطريق”، وكان يدخل معهم دائمًا في جدلية ضخمة، ويرى أن أفكار الجماعة مخالفة لسنة رسول الله، وكان علي جمعة قد رفض عرض الانضمام للجماعة.
وكتب برنامج “الشاهد” بهؤلاء الضيوف وغيرهم من التروس الأساسية التي حرّكت موج 30 يونيو الهادر، وسطّر الرواية المصرية عما حدث، والتي تحاول الآلات الإعلامية الإخوانية زعزعتها من خلال التدليس ولي عنق الحقائق المستمر، ضمن استراتيجية “النَفَس الطويل”، في محاولة لخلق “شاهد” زور يحاول طمس رواية “الشاهد” الحقيقي، والتي هي الحقيقة المصرية الساطعة كالشمس !
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال