الكتاتيب اليهودية في مصر.. قصة مرحلة تعليمية منسية في عصر محمد علي باشا
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
نعرف كلنا لفظ “كُتَّاب”، والصورة الذهنية لدينا إنه مكان يقوم فيه شيخ مُعمم وغالبا ضرير بتحفيظ القرآن للأطفال.. بالتالي هو مكان يخص المسلمين، لكن ما لا يعرفه الكثير من الناس هو إن مصر شهدت وجود عدد من الكتاتيب المسيحية بالإضافة أيضًا إلى بعض الكتاتيب اليهودية، ونشطت هذه الكتاتيب بقوة لافتة في عصر محمد علي باشا.
اقرأ أيضًا
ليت زمن الكتاتيب يعود يومًا
المعنى العام للكُتَّاب أنه دار تشبه المكتبة في مساحتها ويتولاها مُتعَلِم يُعلِم الأطفال القراءة والكتابة والمبادئ الأولية للعلوم الدينية، وذلك المعنى طبقه اليهود والمسيحيين في مصر.
اليهود في مصر
عبر صفحات التاريخ، تنقل لنا الوثائق والأبحاث لمحات عن حياة الجاليات اليهودية في مصر، خصوصًا في مجال التعليم الذي يعكس أسلوبًا فريدًا للتكيف مع الظروف المجتمعية والسياسية.
كان التعليم لدى اليهود في مصر، خلال القرن التاسع عشر، شاهدًا على التنوع الثقافي والتحديات التي فرضتها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
تكشف لنا بعض السجلات التاريخية الموثوقة عن مشهد متواضع للحياة اليهودية في مصر آنذاك، إذ بلغ تعدادهم زهاء خمسة آلاف نسمة، يقطن معظمهم أحد أحياء القاهرة القديمة.
شَق أطفال اليهود طريقهم نحو المعرفة بوسائل شديدة التواضع؛ فتارة يُتلى عليهم العِلم في زوايا المنازل بجهود فردية، وتارة أخرى تُفتح لهم أبواب مدارس أولية أرهقتها مظاهر التردي والإهمال، وكان حضور الكتاتيب مقترنًا برهبة المعبد، إذ دُسّت في أركانه أو التصقت بجواره.
شهدت القاهرة في حقبة تاريخية مضيئة وجود ثمانية معابد يهودية، حيث عاش اليهود بحرية تامة لممارسة شعائرهم الدينية بلا قيود، في ظل أجواء من التسامح الديني والاجتماعي.
ولم تقتصر أماكن عبادتهم على القاهرة وحدها، إذ أشار المؤرخ علي باشا مبارك (1823-1893م) إلى وجود بيعة أخرى لليهود تقع في قلب حارة جامع النصر بمدينة المحلة الكبرى، ما يعكس امتداد تواجدهم الثقافي والديني في أنحاء مصر.
الكتاتيب اليهودية
أما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فكانت مسيرة التعليم بين أطفال اليهود تسير وفق نسق تقليدي يتجسد في نظام “الحيدر”، المشابه لنظام الكتاتيب الإسلامية، حيث تعلم الأطفال القراءة والكتابة وحفظ الأدعية والصلوات، التي تُرتل بأصوات خاشعة في صلوات السبت والمناسبات الدينية الكبرى، ليغرسوا بذلك ارتباطًا روحيًا وثقافيًا عميقًا بتاريخهم وتراثهم.
ويذكر د. مصطفى محمود علي في دراسته عن الأوقاف والحياة العلمية عند غير المسلمين في عصر محمد علي باشا، أنه في تلك الحقبة، لم تُعطِ الكتاتيب اليهودية اهتمامًا كبيرًا لتفسير معاني النصوص الدينية بقدر ما اهتمت بتعليم الأطفال أصول القراءة والكتابة.
كانت أساليب التعليم مبتكرة، تهدف إلى ترشيد استخدام الورق وتوظيف عدة لغات في آنٍ واحد، كانت الإيطالية والعبرية والفرنسية تشكل اللغات الأساسية في عملية التدريس، بينما كانت المناهج لا تقتصر على الحروف فقط، بل تشمل أيضًا مبادئ الحساب والجغرافيا التي تهدف إلى توسيع أفق التلاميذ.
أما التلمود، فكان يُدرَّس بشكل خاص للطلاب الأكبر سنًا في يوم محدد من كل أسبوع، وكان السن المحدد للالتحاق بالكتاتيب يختلف بين الثالثة والسادسة، حيث يبدأ الأطفال خطواتهم الأولى في التعلم.
وفي إطار العائلات اليهودية الثرية، كان من المعتاد أن ترسل أبناءها إلى المدارس المسيحية سواء في الداخل أو في الخارج، بهدف ضمان تعليم أوسع وأشمل يمكنهم من الارتقاء في سلم المعرفة، لكن الفتيات في تلك العائلات كان حظهن مختلفًا، إذ تم حرمانهن بشكل شبه كامل من فرص التعليم، ليبقين محاصرات داخل جدران تقليدية تُقيّد تطلعاتهن.
الأوقاف اليهودية
فيما يخص دعم الأوقاف للمكاتب التعليمية اليهودية، كان ذلك خاضعًا لأحكام الشريعة الإسلامية التي كانت تقيد إمكانيات تسجيل الأوقاف لصالح مؤسساتهم، ومع ذلك، تكشف الوثائق التاريخية أن اليهود عمدوا إلى تأسيس أوقاف خاصة بأبنائهم وفقرائهم، ما أتاح للمؤرخين فرصة لاستكشاف العديد من جوانب حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
من بين الأمثلة البارزة على ذلك في العهد العثماني، وقف المعلم “مردخاي بن خلف الله بن زكريا الربان” من أصل مغربي، منزلًا فخمًا في “درب الرايض” في حارة زويلة، بالإضافة إلى أملاك أخرى، لصالح كُتاب تعليم الأطفال اليهود، وخُصِصَت عائدات هذا الوقف لتلبية احتياجات الكُتاب، مثل استئجار المكان وتجهيزه بشكل دائم.
أما في عصر محمد علي، فقد وردت إشارات إلى أوقاف خصصت لصالح تاتيب التعليم اليهودية، مثل وقف “المعلم خضر بن موسى اليهودي”، الذي اشترى قاعة كبيرة في حارة اليهود وخصصها لدعم فقراء اليهود وأطفالهم المتعلمين.
وفي هذا السياق، كان الخيار الوحيد المتاح لهذه الكتاتيب هو الاعتماد على الهبات والتبرعات من أهل الخير، وكان للوقف العقاري دور بالغ الأهمية في ضمان استمرارية هذا الدعم، فالعوائد الناتجة عن تأجير العقارات كانت تشكل موردًا ثابتًا يساعد على استمرار هذه المكاتب في أداء دورها التربوي والاجتماعي.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال