“زجاجة كحول فتحت الباب للنفوذ” هكذا بدأ المال السياسي في انتخابات أمريكا
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يشكل المال السياسي في انتخابات أمريكا ركيزة أساسية، سواءً في السباق الرئاسي أو في انتخابات الكونجرس، يُستخدم كوسيلة لتمويل الحملات الانتخابية، مما يجعل التأثير المالي قوة ضاغطة لجذب الناخبين وكسب ولائهم.
بداية تاريخ المال السياسي في انتخابات أمريكا
تتغلغل جذور التمويل السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية في أعماق تاريخها، حيث يُعبر عن ذلك بجلاء من خلال قصة أول رئيس لها، جورج واشنطن.
في عام 1755م، خاض جورج واشنطن غمار الانتخابات لمجلس النواب في ولاية فريدريك (ميريلاند حاليًا)، ولكنه اصطدم بهزيمة قاسية، عزى أسبابها إلى عجزه عن تقديم الكحول الكافي لإغراء الناخبين وكسب ودهم.
سرعان ما أدرك جورج واشنطن الدرس، وبعد عامين من تلك التجربة، استثمر نحو 190 دولارًا في توفير البيرة والبراندي وعصير التفاح ومختلف الكحوليات، مما مكنه من كسب 331 صوتًا، بينما لم يتجاوز منافسه الـ40 صوتًا، ليحقق انتصارًا ساحقًا في الانتخابات.
تعكس هذه القصة أن قضية المال السياسي ليست حديثة العهد، بل تمتد إلى أعماق التاريخ السياسي الأمريكي، حيث يُعد التمويل عاملاً رئيسيًا في كسب الأصوات، وما زالت هذه المسألة تشغل الرأي العام حتى الآن.
وعلى يد أندرو جاكسون، الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية، تحولت عملية تمويل الحملات الانتخابية إلى منهجية معروفة، فقد تحطمت آماله في الوصول إلى الرئاسة عام 1824م أمام جون كوينسي آدامز، مما أجبره على إعادة التفكير في استراتيجياته، فقد أدت موارده المالية المحدودة، وسط ظروفه الاقتصادية الصعبة، إلى هزيمته.
ولكن في عام 1829م، وبفضل جهوده في جمع التبرعات، تمكن من تخطي تلك العقبة، ليصبح أول من يؤسس لحقبة تعتمد فيها الحملات الانتخابية على التبرعات لدعم مرشحيها.
في هذا الإطار، يتميز التاريخ الأمريكي الطويل في تمويل الحملات الانتخابية بكونه متغيرًا وغير ثابت، فقد شهدت أوجه التمويل وتنوع مصادره وطرق صرفه تطورات كبيرة عبر العقود، وتجد الحملات نفسها الآن في وضع يعتمد بشكل كامل على التبرعات، مع زيادة مضطردة في معدلات جمع الأموال خلال كل موسم انتخابي.
التشريع الأمريكي وموقفه من المال السياسي
في قلب الجدل الدائر حول تمويل الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، يبرز تاريخ حافل بالتغييرات التشريعية منذ سبعينيات القرن الماضي، فقد شهد عام 1974 ميلاد «قانون الحملات الانتخابية الفيدرالية»، الذي أرسى دعائم جديدة للإصلاح في هذا النظام، ملزمًا الحملات بالكشف عن مصادر الدعم ونفقات الحملات السياسية، ويعد هذا القانون بمثابة حجر الأساس لجهود تعزيز الشفافية والنزاهة في مسار العملية الانتخابية.
في سياق الانتخابات الأمريكية، يُمنح بعض المرشحين فرصة الحصول على دعم مالي من الخزانة الأمريكية، حيث يتجلى هذا الدعم جزئيًا خلال الانتخابات التمهيدية ويتحول إلى دعم كامل في الانتخابات النهائية، ولكن هذا الدعم يأتي مع قيود صارمة، إذ يتعين على المرشح الالتزام بمعايير معينة، أبرزها جمع 100 ألف دولار في 20 ولاية خلال المرحلة التمهيدية، بحيث لا تتجاوز مساهمة الفرد 250 دولارًا، وقد أُنشئت لجنة الانتخابات الفيدرالية لتطبيق هذه الضوابط.
تأسست لجنة الانتخابات الفيدرالية (FEC) كهيئة فدرالية رائدة تتولى مهمة تنفيذ قوانين تمويل الحملات الانتخابية، حيث توكل إليها مهمة مراقبة الإنفاق والتحقق من المخالفات المحتملة، إلى جانب التأكد من تقديم اللجان السياسية والمرشحين تقارير دقيقة حول مصادر تمويلهم، التي تُعرض فيما بعد للعموم عبر اللجنة.
ثغرات إجرائية
على الرغم من الأهمية القانونية التي تتمتع بها هذه اللجنة، إلا أن الأداء الفعلي لها كشف عن عيوب واضحة، يتجلى ذلك في تركيبها الذي يضم ستة أعضاء، ثلاثة منهم من الحزب الديمقراطي وثلاثة من الحزب الجمهوري، هذه التركيبة تؤثر سلبًا على استقلالية القرارات، حيث تتجه غالبًا نحو التوجهات الحزبية، مما يعقد عملية اتخاذ القرارات ويعوق فرض العقوبات، إذ يتطلب الأمر توافق أربعة أعضاء على الأقل، مما أدى إلى حالة من الركود وتقويض دور اللجنة الفعلي.
في إطار عجز اللجنة عن الوفاء بالتزاماتها وكشف الثغرات المتأصلة في قانون 1974م، تزايدت الأصوات المطالبة بتعديل القانون خلال التسعينيات، وفي عام 2002م، تم إقرار قانون ماكين – فينجولد بعد سلسلة من المناقشات المكثفة في الكونغرس، والذي جاء كخطوة تهدف إلى تقليل اعتماد المرشحين على جماعات الضغط والشركات، حيث تم رفع حدود المساهمات الفردية إلى 2000 دولار.
فشل هذا الإجراء في كبح جماح المرشحين الذين استمروا في استمداد الدعم من تلك الجهات المانحة، خاصةً مع تحديد الحكومة سقفًا للإنفاق الحكومي بمقدار 37 مليون دولار للانتخابات في 2004م.
تحول جذري
في عام 2010، جاء قرار المحكمة العليا المعروف بـ “المواطنون المتحدون” ليُحدث تحوّلاً جذريًا في عالم السياسة، حيث أزال الحواجز أمام المساهمات المالية التي يمكن أن تتلقاها اللجان الفيدرالية، هذا القرار منح الشركات والمنظمات غير الربحية حرية غير محدودة في دعم المرشحين، شريطة أن تظل عمليات الإنفاق بعيدة عن التنسيق المباشر معهم، مما عزز من نفوذ الجهات المانحة في العملية الانتخابية.
أدى حكم المحكمة العليا إلى تمكين الحملات الانتخابية من الحصول على تمويل من مصادر غير معلنة، ما يُعرف بـ “الأموال المظلمة”؛ وتُقدّر هذه المساهمات بمليارات الدولارات، وأصبح الاعتماد عليها شائعًا، خاصة في السباقات الانتخابية شديدة التنافس.
تتوزع أوجه التمويل الانتخابي بين ثلاثة مصادر رئيسية؛ فالأحزاب السياسية تأتي في المقدمة، حيث تُخصص ميزانياتها لدعم مرشحيها من خلال حملات دعاية تهدف إلى استقطاب الناخبين، وتلعب لجان العمل السياسي (PACs) دورًا محوريًا، إذ تمثل تكتلات مدعومة من الشركات والنقابات العمالية، وتساهم في جمع الأموال وتوجيهها نحو الحملات الانتخابية، وأخيرًا، يظهر المتبرعون الأفراد الذين يقدمون الدعم المباشر للمرشحين، مُؤكدين بذلك أهمية المساهمة الفردية في العملية الديمقراطية.
تشير التقديرات إلى أن صغار الممولين يمثلون القوة الفاعلة الأكثر تأثيرًا في مشهد التمويل الانتخابي، وفي هذا الإطار، تهيمن لجان العمل السياسي، التي تحظى بدعم كبير من الشركات الكبرى والجمعيات المهنية، على حصة الأسد من هذه الموارد المالية.
أرقام وإحصائيات
تكشف بعض الإحصاءات عن ارتفاع مذهل في إنفاق الشركات وجماعات المصالح على الحملات الانتخابية، حيث قفزت النسبة بنحو 900% بين عامي 2008 و2016، وبالفعل، بلغ حجم التمويل الانتخابي في عام 2020 حوالي 14.4 مليار دولار، بعد أن كان 5.7 مليار دولار فقط في عام 2018، مع وجود أكثر من مليار دولار من مصادر غير مشروعة.
في سياق الانتخابات الأمريكية المرتقبة، أفادت تقديرات منظمة “حقائق عن الولايات المتحدة الأمريكية” في الثاني من أغسطس 2024، أن الحملات السياسية قد نجحت في جمع حوالي 8.6 مليار دولار لدعم انتخابات مجلسي النواب والشيوخ والرئاسة لعام 2024 بين يناير 2022 وأبريل 2024، وبحسب البيانات، فإن لجان العمل السياسي كانت المحرك الرئيسي لهذه الأموال، حيث ساهمت بنحو 65%، أي حوالي 5.6 مليار دولار.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال