بتسمعني أنا يا رب؟
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد
”لم يخلق الله شيئًا أقوى من الدعاء، جعلهُ أقوى حتى من أقداره.”
…
لم تكن جدتي- رحمها الله- تدعو الله بالشكل الاعتيادي الذي نمارسه ونصادفه من حولنا، بل كانت تتوسل إليه وتحادثه، كأنها تراه، بل كأنها في الكون وحدها تناجيه وهي واثقة من أنه يراها ويسمعها.
كانت تحادثه ببساطة مُدهشة، تطلب منه أبسط الأشياء.. في إحدى المرّات فوجئت بها تتوسل إليه أن يرزقها بنوع مُعين من السمك اشتهته ولم تجده عند تاجر السمك بالقرية! ابتسمتُ في سري مستعجبًا، فقد كانت غضبتها عظيمة إذا ما تجرأ أحد وسخر من مناجاتها المستمرة لله.. لم تكتمل الساعة، حتى وجدتُ أحد أقربائنا واقفًا بين يديها عند باب البيت، يحمل بين يديه كيسًا مليئًا بالسمك الذي اشتهته وطلبته جدتي من الله.. أخبرها قريبنا أنه أحضر لها هذا السمك من “المركز” على سبيل الهدية، وطلب منها ألا ترده خائبًا، فأخدته شاكرة تبتسم، ابتسامة لم يفهمها غيري تقريبًا، ابتسامة شُكر وتسليم لله، ابتسامة رضا لم أصادفه في الدنيا إلا عِندها.. لم تحفظ من القرآن إلا ثلاث سور قصيرات، وهي الأُميَّة التي لم تعطها الدنيًا حظًا من التعليم، إلا أن الله حلَّ في قلبها، حلول الإيمان الصادق دون تباهي.
والأصعب والأسبق من الرضا- دومًا- كان اليقين.
…
“يا رب..
أنا يا رب؟
بتسمعني أنا؟!
ده أنا مدمن ابن كلب واطي مليش 30 لازمة!
بتسمعني أنا يا رب؟!
أنا؟!
الإمام الشافعي يرد على جواب عويل أفيونجي ترامادولجي.. طب إزاي؟!”
بوجه شاحب، وملابس رثة، ومظهر عام يوحي بضياع الوقوع في فخ إدمان المخدرات، وقف الرجل الفقير في شرفة منزله الأكثر فقرًا، والذي أدى ببراعة دوره الفنان “محمود عبد المغني” في فيلم “صاحب المقام“، يناجي ربّه ناظرًا للسماء وهو مذهول، بعد أن استجاب لاستغاثته، متسائلًا في حيرة اليائس وهو يشير إلى نَفْسه: “بتسمعني أنا يا رب؟!”.. دمعت عيناي وأنا أتابع هذا المشهد بالتحديد، أعدته أكثر من مرة وقلبي يرتجف، حالي حال الكثيرين ممن شاهدوه، وكأن كل واحد مِنّا وجد نَفْسه في موضع العاصي المُندهش من رحمة الله به، أتسمعني أنا يا رب؟ أتسمعني وأنا عاصيك في السر وأنت تسترني في العلن؟ أتسمعني وتستجيب وأنا مَن تُسقطني الحياة كل يوم 100 مرة عن صراطك المستقيم، أسقط في المعاصي وأنهض، وأسقط وأسقط، وأنهض، وأسقط.. وتسامحني؟ وتسمع دعائي، أنا يا رب؟!
والإجابة تأتينا دومًا: نعم يسمعك، وينتظرك في نهاية الطريق، دومًا ينتظرك.. ويستجيب.
…
لا أؤمن بالوساطة بين الله والبشر عن طريق أي أحد، ولا أعتقد أننا بحاجة لمراسلة الإمام الشافعي أو غيره من أولياء الله الصالحين، ليتشفَّع لنا عند الله.. لكني أؤمن بقوة الدُعاء، بقوته اللامتناهية القادرة على تغيير كل شيء، حتى القدر.
وربما هذا هو أكثر ما أعجبني في فيلم “صاحب المقام”، سحر الدُعاء القادر على استجلاب عون الله ومدده في صور لا تخطر على بال المُستغيث بالله، ليجد طريقه ممهدًا بسند الله، وبأيدي بشر لا يعرفهم ولا يعرفونه، لكن الله استجاب لتوسلاته، وساقهم إليه برحمته.
على الرغم من العيوب الفنية المُزعجة التي لمستها في الفيلم، على مستوى الكتابة والإخراج، إلا أن جوهر هذه الفكرة هو ما منح الفيلم رواجًا وقبولًا بين قطاعات مختلفة من المشاهدين، خاصة بين فئة الشباب.
تطحننا الضغوط من كل اتجاه، وتتدفق المعلومات علينا، معلومات عن كل شيء، ترفع سقف الطموح والأمل، وأحيانًا تُشعرنا بمدى ضآلتنا في هذا العالم الواسع المزدحم بشدَّة.. فأين نجد العون؟
نجري ونلهث في كل اتجاه، ونشكو مرارة السعي دون وصول، وننسى السحر الذي بين أيدينا دومًا: الدعاء.
أحيانًا يضلّ القلب طريقه إلى اليقين في ربه، شخصيًا، عشتُ لسنين متجاهلًا الدعاء وقيمته، محرومًا من نِعمة حُسن الظن بالله ورحمته.. عايشتُ يقين جدتي بالله وبالتوسُّل له، حتى فيما يبدو أنها توافه الأمور، لكني لم أتعلم إلا مؤخرًا أن أثق في سحر الدعاء.. أن أقول: “يا رب..” آملًا واثقًا في رحمته واستجابته لما فيه خير لي.. فالله- جلّ جلاله- أرحم من أن يُضيّع قلبًا عامله باليقين.
…
بتسمعني أنا يا رب؟!
نعم يسمعك، دومًا يسمعك، وكأنّك في الكون وحدك.
الكاتب
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد