“بدون تدنيس ومن غير تقديس” حقيقة الناصر صلاح الدين بميزان التاريخ
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تتجدد الذكرى الـ 829 لرحيل السلطان يوسف بن أيوب ومعها تتباين الرؤى حول حقيقة الناصر صلاح الدين والذي مات في مارس عام 1193 واختلف المؤرخون في يوم وفاته بين 4 و 10 مارس، لكن ذلك الخلاف لم يكن كالخلاف حول شخصية الناصر صلاح الدين في ميزان التاريخ والمؤرخين.
حقيقة الناصر صلاح الدين في نشأته .. سكير تائب يكره الزحف على مصر
في العام في العام 532 هـ الموافق 1138 مـ ولد صلاح الدين لأسرةٍ ذات صيت في العراق، فوالده هو الأفضل نجم الدين أيوب والي بعلبك، ولا توجد مراجع استطردت حول طفولة صلاح الدين وتفاصيلها، لكن المتفق عليه يقينًا أنه خلال فترات شبابه الأولى كان مُلِمًّا بعلوم كثيرة لها صلة بالهندسة والحساب والفلك والفقه والتاريخ والشعر والأنساب، إلى جانب نشأة عسكرية مميزة في سنوات شبابه الأولى بدءًا من معرفته بالخيول وسلالتها ووصولاً إلى القتال.
كان أول منصب تولاه صلاح الدين في حياته خلال الدولة الزنكية هو «الشِحْنَكِيَّة» – كلمة من العهد الزنكي تعني الأمن ـ وكان صلاح الدين هو «شَحْنَة الشِحْنَكِيَّة» ـ المسئول عن الأمن ـ في دمشق، وقبيل توليه كان معروفًا عن صلاح الدين شراهته في شرب الخمر.
شمس الدين الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء نص على أن صلاح الدين على أنه كان يشرب الخمر ثم تاب، وحدد تاريخ إقلاعه عن شرب الخمر بعام 1174 م (تاريخ توليه السلطنة في مصر) وفي هذا يقول الذهبي « كان يشرب الخمر ثم تاب، وتَمَلَّكَ بعد نور الدين واتسعت بلاده ومنذ تسلطن طلق الخمر واللذات».
كان الظرف السياسي الأخطر في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية زمن العباسيين هو الصليبيين والذين كانوا عنصر التهديد الأعظم والأخطر، وبالتالي لا بد من مواجهتهم عن طريق دولة فتية قوية، فكانت تلك الدولة هي الدولة الزنكية التي تأسست على يد عماد الدين زنكي صاحب أول مواجهة فعلية ضد الصليبيين بفتح الرها سنة 1144 م.
رحل عماد الدين زنكي بحادث اغتيال عن طريق مجموعة من الباطنية الذين لهم صلات سياسية مع وزراء الدولة الفاطمية، وتولى بعده ابنه نور الدين محمود والذي بدأ في عهده الجهاد الإسلامي الضاري ضد الصليبيين في ظروف سياسية بالغة السوء، فالدولة العباسية صارت ضعيفة، والفاطميين العنصر الفاعل في المد الصليبي بالعالم الإسلامي.
شن نور الدين محمود مواجهات عديدة ضد الصليبيين أذاقهم فيها هزائم قاسية، لكن قوة الصليبيين اللوجسيتية تكمن في تعاونهم مع وزراء الفاطميين، خاصةً بعد صراع الوزيرين شاور وضرغام على السلطة الذي قاد شاور للاستعانة بالدولة الزنكية للقضاء على ضرغام الذي سيتحالف حتمًا مع الصليبيين، وترجحت الكفة أكثر عندما قام الحاكم الفاطمي العاضد بإرسال رسالة إلى نور الدين محمود يطلب فيه إنقاذ مصر من الصليبيين.
اختار نور الدين محمود القائد أسد الدين شيركوه بالسفر إلى مصر وقام الأخير باختيار ابن شقيقه صلاح الدين للسفر إلى مصر للتعامل مع الأمر.
صلاح الدين في مصر والنهضة بالدماء
لم يكن صلاح الدين راغبًا في السفر إلى مصر لأسباب تتعلق بوضعه العسكري فهو لم يقبل أن يكون جنديًا عاديًا ويقول المؤرخ بن شداد في كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية أن أسد الدين شيركوه اصطحب صلاح الدين عن كراهية منه لمكان افتقاره إليه، وصلاح الدين نفسه قال للمؤرخ بن شداد « كنت أكره الناس للخروج في هذه الواقعة، وما خرجت مع عمي باختياري».
أما بن كثير وبن الأثير فذكرا أن هناك أسبابًا مالية ونفسية جعلت صلاح الدين يكره السفر إلى مصر فيقول «لما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إليّ فقال لي: تجهز يا يوسف! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبدًا، فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمر به فأمرني نور الدين وأنا أستقيل وانقضى المجلس، وتجهز أسد الدين ولم يبق غير المسير قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك فشكوت إليه الضائقة وعدم البركة فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت فسرت معه وملكها ثم توفي فملكني الله ما لم أكن أطمع في بعضه».
مات شيركوه وزير الحاكم الفاطمي العاضد ذا العشرين عامًا، وتولى صلاح الدين منصب الوزارة وتوطدت صلاته بالعاضد الفاطمي لدرجة كبيرة، واكتسب خلال أشهر شهرة وجماهيرية واسعة، أثارت أحقاد مؤتمر الخلافة جوهر السوداني، أحد المقربين من العاضد الفاطمي وقائد الجند السودان، وأحقاد مؤتمن الخلافة جعلته يتواصل مع الصليبيين ويدبر مؤامرة للإطاحة بصلاح الدين، وقد علم الأخير بتلك المؤامرة لكنه لم يتخذ أي رد فعل سلبي تجاه جوهر وهو ما أقلق جوهر فمكث في بيته لا يخرج أبدًا.
ارتكب صلاح الدين خسة مع مؤتمن الخلافة جوهر، فبدلاً من أن يحاكمه على خيانته تركه حتى شعر بالأمان ثم ترك القاهرة وذهب لبلدة بالقرب منها للتنزه فقام صلاح الدين بإرسال جماعة من أخلص رجاله ليقتلوه اغتيالاً، ثم ولى بهاء الدين قراقوش أمر القصر الفاطمي.
أثار قتل مؤتمن الخلافة جوهر بتلك الطريقة غضب جند السودان على صلاح الدين فقتل منهم مالا يقل عن 50 ألف رجل كما حددهم بن كثير، أما بن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ ومعه أبو شامة المقدسي في كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية فقالا أنهم أكثر من 50 ألف، فيما يذكر بن تغري بردي في كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة بأنهم كانوا 80 ألف قتيل، بينما قال الذهبي أنهم 200 ألف، ولم ينكر بن شداد مؤرخ صلاح الدين قتل جنود السودان واكتفى بتحديد عددهم بقوله «قتل خلق كثير منهم».
استتب الأمر لصلاح الدين في مصر إلا قليلاً، وكان ما ينقصه هو القضاء على العاضد الفاطمي فجرده صلاح الدين من كل ممتلكاته وأمواله وعزله عن الحكم وقبض على كل أفراد عائلته ومات العاضد كمدًا وقيل أنه انتحر بسم في فص خاتمه.
حقيقة الناصر صلاح الدين في حرق دار الحكمة وهدم الأهرامات ؟
كانت دار الحكمة هي زينة الدولة الفاطمية العلمية إذ احتوت على مجموعة ضخمة من الكتب، وباتت نهايتها مجهولة إلى أن تم اتهام صلاح الدين بأنه حرقها ودمرها.
على وجه اليقين فإن صلاح الدين لم يحرق مكتبة دار الحكمة، فقد دمرت المكتبة قبل مجيئه إلى مصر، وبيعت كتبها، ولما جاء إلى مصر لم يكن متبقي منها غير مكتبة القصر الفاطمي الداخلي والتي احتوت على آلاف الكتب.
اتفق كل المؤرخين على قيمة مكتبة القصر الفاطمي زمن صلاح الدين، لكنهم اختلفوا في مصيرها على يديه، فبعضهم رأى أنه باع منها كتبًا ووهب أخرى للناس وما تبقى منها أخذه لنفسه أو أهداه لرجاله، وبعض المؤرخين ذهبوا إلى أن جزءًا كبيرًا منها ذهب إلى الشام.
بشأن الأهرامات فإن المقريزي في خططه وعبد اللطيف بن يوسف البغدادي في كتاب الإفادة أكدوا على قيام صلاح الدين الأيوبي بتوجيه أمر بهدم عدد من الأهرامات لاستعمال أحجارها في بناء قلعة الجبل، والذي مات قبل أن يتمها.
حقيقة الناصر صلاح الدين في قتل السهروردي
اثنين من المؤرخين تكلموا عن قتل شهاب الدين السهروردي، أحدهما هو بن شداد مؤرخ صلاح الدين في كتاب المحاسن اليوسيفية، والثاني ابن أبى أصيبعة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء.
يقول مؤرخ صلاح الدين «لقد أمر – صلاح الدين – ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معانداً للشرائع مبطلاً وكان قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان – صلاح الدين – به فأمره بقتله فطلبه أياماً فقتله».
لكن ابن أبى أصيبعة له رأي آخر فالسهروردي كان صديقًا لنجل صلاح الدين الأيوبي قبل أن يقتله بسبب حقد العلماء عليه، فيقول «ناظر السهروردي الفقهاء ولم يجاره أحد فكثر تشنيعهم عليه فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام فتكلم معهم بكلام كثير بان له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه وصار مكينا عنده مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضرة بكفره وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله ولا سبيل أنه يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك في مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ففعل به ذلك».
صلاح الدين ونور الدين محمود .. ثنائية الصداقة الإغريقية
بدأت العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين محمود بالوفاق وانتهت بالشقاق وكانت بداية الخلاف بينهما عندما تأخر صلاح الدين عن تنفيذ أمر نور الدين محمود بالدعاء للخليفة العباسي من على المنابر.
تفاقمت الخلافات أكثر فيما بين الرجلين عندما طلب نور الدين محمود من صلاح الدين تسديد 200 ألف دينار كان أعطاها له ولعمه شيركوه في الحملة على مصر فأرسل له صلاح الدين 60 ألف دينار.
وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة بين صلاح الدين ونور الدين محمود عندما قرر الأخير الإطاحة بصلاح الدين من مصر وذلك لأنه رأى انحراف صلاح الدين عن مسار سبب وجوده في مصر، فقد اعتبر أنه لم يحارب الصليبيين وانما انشغل بإطاحة العاضد وهو ما يؤخر مشروع الدولة الزنكية في مواجهة الصليبيين، وبالفعل جهز نور الدين محمود حملة عسكرية للإطاحة بصلاح الدين لكن لم تقع الحرب بسبب موت نور الدين.
كان موت نور الدين محمود هو نهاية الدولة الزنكية شكليًا، لكن النهاية الفعلية عندما قام صلاح الدين بمحاربة الدولة الزنكية نفسها والإطاحة بنجل نور الدين محمود عن الحكم، بل وتزوج صلاح الدين من أرملة نور الدين محمود، وشهد الصراع بين الأيوبيين والزنكيين معارك كثيرة أُزْهِقَت فيها أرواح وجعلت بعض وزراء الدولة الزنكية يتعاملون من الصليبيين لمواجهة صلاح الدين !.
الصليبيين وعصر الناصر صلاح الدين في ميزان التاريخ
بمقاييس التاريخ فإن اثنين هما من أشد وألد ألد أعداء الصليبيين وهما نور الدين محمود زنكي والناصر قلاوون، لكن الخطأ فيما يخص صلاح الدين هو تصويره بأنه الذي واجه الصليبيين، وذلك غير صحيح فالحروب الصليبية بدأت قبل أن يظهر بسنوات بعيدة، وانتهت بعد زوال الدولة الأيوبية.
أما هو فقد حاربهم في معارك متعددة كانت أبرزهم حطين، لكن نهاية الحرب بين صلاح الدين والصليبيين كانت في معركة أرسوف والتي انتهت بهزيمة صلاح الدين ثم انعقاد صلح الرملة والذي تم بموجبه منح ساحل فلسطين بالكامل لهم، وأن تكون ن مدينة الرملة واللد مناصفة بين المسلمين والصليبيين، فيما تكون القدس للمسلمين سياسيًا ودينيًا وحكمًا، وللمسيحيين حق الزيارة للحج بإذن المسلمين، إلى أن ضاعت القدس على يد الكامل الأيوبي والذي أعطاها للصليبيين على طبق من ذهب.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال