بين العزلة والتهميش..رحلة الكشف عن حياة بيست سيلر الثمانينيات والتسعينيات؟
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ينشد الكاتب أحيانًا العزلة والخلوة، لينصت لذاته وينسجم مع نفسه، فتطمئن روحه، فالاختلاط بالناس لا يجلب سوي السموم للعقل والروح، فالعزلة هي القاعدة الأساسية للدرجات العليا من المعرفة، كما وصفها الفيلسوف الألماني نيتشه.
النفوس بطبعها مختلفة، متفائلة وحزينة، فإن كانت الثانية، فقد تلجأ لهجر الناس واعتزالهم لتكون الحياة ممكنة، “النفس الكئيبة تجد راحتها بالعزلة والإنفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت” (جبران خليل جبران).
وطرح الروائي الجزائري واسيني الأعرج، في الوقت الذي شعر فيه بالعزلة والوحدة، سؤالًا: هل انتهت تلك السعادات الصغيرة التي كانت طابعنا اليومي؟ هل نسيت أننا كنا مصنع الفرحة حتى في أثر اللحظات قسوة؟
وتفرض متغيرات سوق النشر والعلاقات داخل الحياة الثقافية والعوز الاقتصادي، على بعض الكتاب والمبدعين الانسحاب فورًا.
عزلة إجبارية
بداية من عام 2005 اختفى الأديب المصري مجيد طوبيا، غلبته تكلفة الحياة، فانزوى في شقة صغيرة بميدان تريومف بمصر الجديدة، انقطعت صداقاته، هجره الجميع، انفضوا من حوله.
يجلس أمامي الأديب مجيد طوبيا على كرسيه شاردًا، سيجارته لا تنطفئ، يشعل الثانية من الأولى، أطرح السؤال وأنتظر لدقائق ليستجمع ذاكرته، يقول: جمعتني صداقات عديدة بالأدباء والفنانين، ويشير إلى كنبة بجواره، هنا نام أحمد زكي ليال كثيرة، بعد تعثره في سداد أجرة مسكنه، فطردته السيدة المستأجرة، ونجيب محفوظ أيضًا جمعتني به صداقة وطيدة من خلال حضوري نداوته في عوامة الكاتب محمد عفيفي، كنت أناديه بـ”نُجب”، ويناديني بـ”زُمل” (زميل)، وتوفيق الحكيم صديق عمري، الذي لم يسمح لأحد غيري أن يزوره في مكتبه بجريدة الأهرام دون موعد مُسبق.
يتردد الروائي فتحي سليمان منذ سنوات على شقة الأديب مجيد طوبيا لرعايته،فهو يعيش بالقرب من شقة “طوبيا” بحي مصر الجديدة، ويرافقه منذ سنوات طويلة، يخرجان للمقهى سويًا، يقرأ عليه بعض الأعمال الأدبية، يحاول مساعدته في ترميم بعض أعماله الروائية و القصصية التي لم ينتهي منها “طوبيا”، وحسبما تسعفه الذاكرة، مثل رواية “أوراق العذراء” التي نُشرت ببعض التعديلات عن دار تبارك، ديسمبر 2018.
يُعد مجيد طوبيا من أبرز الأدباء المصريين بفترة الستينات، صدرت له أعمال أدبية عديدة حققت له مكانة مرموقة، لعل أبرزها رواية “تغريبة بني حتحوت” الصادرة عام 1988 عن دار الشروق بالقاهرة، ونُشرت قبلها بعام مسلسلة على صفحات جريدة الأهرام. وقدم للسينما بعد دراسته للسيناريو على يد المخرج المصري الراحل صلاح أبو سيف، أفلام عديدة منها، “أبناء الصمت”1974 الذي جاء ضمن قائمة أفضل مائة فيلم مصري بحسب استفتاء النقاد بمناسبة مرور مائة سنة على السينما المصرية، وحصل على جائزتي الدولة التشجيعية في الآداب عام 1979، تسلمها من الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وجائزة الدولة التقديرية عام 2014.
عزف عن الزواج، لكن ربطته علاقة حب بالمترجمة الإيطالية كونشيتا برازي، أثناء بحثها عن عمل أدبي تنقله للإيطالية فترة السبعينات، فوقع اختيارها على رواية”تغريبة بني حتحوت”، وتطورت العلاقة بينهما إلى حب، وسافر معها إلى إيطاليا، إلى أن وقع الانفصال بينهما لأسباب خاصة.
عانى الأديب مجيد طوبيا الإهمال لسنوات طويلة، من أقرب الناس إليه، بمن فيهم أهله، لم يزره أحد منهم، وعندما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2014، ذهبنا لتسلم الجائزة فوجدناها مع أحد موظفي الاستقبال بوزارة الثقافة المصرية، فأصيب بخيبة كبيرة.
دشن مصطفى عبد الله، الكاتب الصحفي بالمصري اليوم، حملة صحفية لإنقاذ مجيد طوبيا من العزلة التي أكلت صحته وغيبته عن الحياة، فقد ربطته علاقة صداقة بالأديب المصري منذ فترة السبعينات، كان يلتقية في الندوات الثقافية وجلسات المقاهي بحي مصر الجديدة.
الحملة الصحفية للكاتب الصحفي مصطفى عبد الله بدأت عندما كان صحفيًا بأخبار اليوم2012، إثر زيارته لشقة مجيد طوبيا رفقة الدكتور الناقد عبد الله سرور الذي كان يأتي لزيارته من محافظة الإسكندرية أسبوعيًا، صدمتهم الحالة الرثة التي يعيشها “طوبيا”، كأنه يسكن كهفًا، لحيته طويلة، جسد متهالك، لم يذق الطعام منذ أيام، يعاني من أزمات نفسية معقدة، الصرف الصحي للشقة خرب، حركت الحملة الصحفية المياه الراكدة، لكن الغريب أن أصدقاؤه أصحاب المكانة المرموقة، لم يحركوا ساكنًا، بل اندهش بعضهم بأنه ما زال على قيد الحياة.
استجاب صابر عرب وزير الثقافة الأسبق للحملة ، وزار برفقة الكاتب الصحفي مصطفى عبد الله مسكن الأديب مجيد طوبيا، وفوجئ بأحواله، فاشترى له جهاز تلفزيون حديث على نفقته الخاصة، وأجرى اتصالًا هاتفيًا بأحد المسؤلين وقتها بالمجلس العسكري عام 2012 وتمكن من الحصول على توصية لعلاجه على نفقة القوات المسلحة بمستشفى المعادي العسكري، وتم تعديل المعاش الشهري، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2014.
أوصى الأديب المصري مجيد طوبيا بأن تذهب كل الأرباح المادية من نشر أعماله الأدبية لمؤسسة الطبيب المصري مجدي يعقوب، وذلك بعد وفاته.
صخب الحياة الثقافية
يفضّل الكاتب اعتزال الحياة، بعدما يمر به الزمن ويكبُر، يستريح، فمن الشهرة والأضواء وصخب الوسط الثقافي، ارتكن الأديب المصري خليل حنا تادرس للسكون في منزله، يكتب فقط، بعدما حقتت رواياته مبيعات هائلة فترة السبعينات والثمانينات، كما أحدثت جدلًا واسعًا مع الجماعات السلفية المصرية آنذاك.
اختفى خليل حنا تادرس منذ سنوات طويلة، فظن الجميع أنه توفى، إلى أن فاجئهم بظهوره في”قعدة الجمعة” (ندوة ثقافية أسسها كتاب مصريين، تعقد كل يوم جمعة على مقهى زهرة البستان بوسط البلد بالقاهرة).
فور اتصالي به، أخبرني بإصابته بجلطة في المخ، لا يطمئن عليه أحد سوى عائلته، بالكاد يستجمع قواه ويتفوه ببعض الكلمات، تركته وعدت إليه بعد أيام، تحسن بعض الشىء، واستعاد عافيته قليلًا، ووافق على الحديث معي.
يقول حنا تادرس، لا أفارق القلم أو الورق طالما أنا في يقظة، سأكتب حتى مماتي، لا أرى الشارع إلا لتناول النرجيلة وأعود للقراءة أو الكتابة أو النوم، وهذا ما جعلني أصل لإصدار ثلثمائة كتاب حتى الآن، أكتب عن كل شىء، الجنس، الفلسفة، التاريخ، الأكل، التنمية البشرية.
ويؤكد أنه نسب بعض الكتب التي نشرها لأحد ابناءه، لأن موضوعاتها تدور حول الطهي و الشطرنج.
بعد عودته للحياة الثقافية مرة أخرى، انصرف عنها، فضّل إلتقاط أنفاسه بعيدًا، فهو يرى أن الندوات الثقافية والمؤتمرات لا طائل منها، فخير صديق هو الكتاب، فلم ينتظم في حضور أية منها إلا ندوة أديب نوبل نجيب محفوظ التي كان يعقدها بمقاهي القاهرة، أو يزور الكاتب الراحل إحسان عبد القدوس في مكتبه بجريدة روز اليوسف.
يسترجع الكاتب المصري ذكرياته، يقول، حققت روايتي”نشوى والحب” فور نشرها فترة السبعينات جدلًا واسعاً، ومبيعات كبيرة، فقد رأت الجماعات المتشددة أنها رواية جنسية، تحرض الشباب على الفسق والفجور، رغم أنني لا أقصد ذلك، فأنا أكتب عن الحب ومشاعر ورغبات البشر، فقصة الرواية تدور حول فتاة يغويها شاب بالمال، فأصبحت شريرة، مستهترة، لعوبة، تغوي الرجال، إلى أن لقيت حتفها.
يكمل، لم يثنيني الهجوم عن الاستمرارية في الكتابة، كنت انتهي من كتابة عشر روايات مرة واحدة، واشتراهم مني أحد الناشرين، فأكتب ولا يهمني هل ستنشر هذه الأعمال أم لا، كما أنني أصمم أغلفة أعمالي ورسوماتها الداخلية، وأحصل على التراخيص قبل نشرها، تحسبًا للوقوف أمام القضاء.
لأول مرة يدلي “تادرس” بهذه الحكاية للصحافة، يقول، كتبت قصة حياة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقرأها وأعجب بها، لكن الجهات الأمنية وقتها، أرسلت لي خطابًا بعدم نشرها مطلقًا.
يصر خليل حنا تادرس على الاستراحة بعيدًا عن صخب الحياة الثقافية، يكتب ويقرأ فقط، إلى بقية أجله.
انسحاب
فرضت ظروف النشر الأدبي، الإنسحاب على الأديب المصري إسماعيل ولي الدين، بعدما حققت مؤلفاته مبيعات وشهرة واسعة فترة السبعينات والثمانينات. فأشاد أنيس منصور، و الصحفي المعروف أحمد بهاء الدين بروايته الأولى”حمام الملاطيلي”1971وكتبوا عنها في الصحف المصرية وقتها.
بعد بحث مضني، توصلت إلى رقم هاتفه المنزلي، فهو لا يمتلك هاتف محمول، حاولت التوصل للإتفاق على مقابلة صحفية، لكنه يصر على الرفض، والحديث فقط عن طريق الهاتف المنزلي.
يقول، الناشرين يرفضون نشر أعمالي هذه الأيام، وفضلت الابتعاد منذ سنوات طويلة، بعد أن انصرف عني الصحافيين والكُتاب والمسؤلين بوزارة الثقافة المصرية، فلم يتردد علي إلا الخادم، وأسافر إلى شرم الشيخ في بعض الأوقات للتنزه.
كتب إسماعيل ولي الدين رواية “شجرة العائلة” في أربع سنوات، ليوثق الأحداث التاريخية ما بين فترة الخمسينات والثمانينات، ورفض نشرها لأن فكرتها لن تجذب القارىء لتحقق مبيعات، ما دفعه إلى الإصرار على فكرة الانسحاب.
ورغم انسحابه من الحياة الثقافية، بدايةمن عام 2000 تقريبًا، يقول، لازلت أكتب، لدي بعض الأعمال القصصية التي انتهيت منها مؤخرًا، لكن لن ينشرها لي أحد، فالجميع يرى أنني أكتب عن الجنس والإثارة فقط، وأنا برىء من هذا الاتهام.
جذبت روايات إسماعيل ولي الدين كبار مخرجي السينما، فهو يطرح موضوعات شائكة ومغايرة تجذب الجمهور لشباك التذاكر غالبًا، فهي تكشف عن واقع الحياة الإجتماعية السرية داخل الحواري الشعبية وتجارة المخدرات والجنس.ومنها رواية “حمام الملاطيلي” 1971 حولت لفيلم بنفس الإسم عام 1973، إخراج صلاح أبوسيف، ورواية”الباطنية”1979 وتحولت لفيلم بنفس الإسم، إخراج حسام الدين مصطفى 1980، ورواية”السلخانة”1976 تحولت لفيلم بنفس الاسم، إخراج أحمد السبعاوي.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال