تاريخ مطاريد الجبل في مصر مع الدولة “قصة صناعة الأزمة ومواجهتها”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ارتكنت الصورة الذهنية في فهم شكل تاريخ مطاريد الجبل في مصر على النمط الذي أظهره الفن لهم من خلال أعمالٍ أشهرها في السينما فيلم سلطان لـ فريد شوقي، ومسلسل ذئاب الجبل للفنان أحمد عبدالعزيز.
إذ أنهم مجموعة هاربين من أحكام قضائية بالسجن أو الإعدام، جراء تورطهم في جرائم مخالفة للقانون، ولما كانت الحياة في الجبل بالغة الصعوبة كان عليهم أن يقوموا بعمليات سلبٍ ونهب داخل القرى المتخامة للجبال التي يلوذون بها.
الاحتكار يضع بذرة تاريخ مطاريد الجبل في مصر ؟
غير أن الشق الإجرامي للهاربين في الجبال كان هو آخر فصول تاريخ مطاريد الجبل في مصر، فهو تاريخ عتيق عتيد يعود إلى 200 سنة.
في الأساس فإن الهروب إلى الصعيد كان يقتصر على الأمراء المماليك الذين يخشون قتل رفاقهم الذين تولوا السلطة وقد لقوا عناية من هوارة الصعيد كبدتهم لاحقًا خسائر ضخمة كالحال الذي حدث مع شيخ العرب همام.
لكن بذرة تاريخ مطاريد الجبل في مصر زرعها محمد علي باشا عام 1812م بسياسة الاحتكار الاقتصادي، الذي حظرت على التجار المحليين أن يشاركوا في تجارة القمح وتم حجز كافة أنواع الغلال ليتولى محمد علي باشا وحده عملية البيع والشراء، فيما نجح ولده إبراهيم باشا باحتكار تجارة السكر عقب أن سيطر على كافة أراضي الصعيد المزروعة بالقصب.
وترعرعت تلك البذرة عام 1816م أثناء المرحلة الثانية من الحرب ضد الوهابية، عندما اعترض غالبية الصعايدة على إجراءات محمد علي باشا الاقتصادية، فلم يرد الباشا أن يفتح جبهتين عليه، الأولى في الحجاز والثانية بجنوب مصر.
التجنيد الإجباري ونقطة اللاعودة في علاقة الدولة مع المطاريد
أَسرها محمد علي باشا في نفسه ولم يبدي أي غضب على الصعايدة إزاء مقاومتهم البسيطة لسياسة الاحتكار لحين الانتهاء من أمر الوهابية، وما هي إلا 4 سنوات حتى أصدر قراره بالتجنيد الإجباري عام 1822م واتخذ في سبيل ذلك إجراءات بالغة القسوة، لكنها كانت ناجعة وناجحة.
واصل محمد علي باشا تنفيذ سياسة الاحتكار وتوسع فيها جنبًا إلى جنب مع المنشآت التي بدأ يؤسسها بالسخرة وكان لازمًا عليه الاستعانة بالمصريين في أعمال السخرة، وهو ما أحدث طلاقًا غير رجعي بين الصعايدة والباشا، فاندلعت أعمال ثورة قمولا في قنا ضده عام 1824م، ليقرر قمعها بمن طبق عليهم التجنيد الإجباري، أي أن هناك مصريين سيقفوا ضد مصريين.
كان ذلك القرار خطيرًا، إذ قرر 700 مجند ترك الجيش والهرب منه والانضمام إلى أفراد الصعايدة في عملية تمرد الفلاحين التي سماها الباشا فلاح فتنة سي، فأعلن الباشا أنه سيتم إعدامهم إن لم يعودوا، وفي نفس الوقت أصدر محمد علي باشا أمرًا بإعدام 45 ضابط أمام جنودهم بتهمة تسهيل هروب الـ 700 مجند، وخلال أسبوعين انتهى أمر ذلك التمرد بمقتل 4 آلاف قتيل، وكان منهم قتيلاً قتله نجله الجاويش (الرقيب) فرقاه الباشا إلى رتبة الملازم.(1)
الجريمة في فِكْر المطاريد لما كان اسمهم الفلاتية
أطلق محمد علي باشا يد الموظفين الأتراك في الصعيد والذين أرهقوا أهله، فنمت عام 1846م حركة هريدي الرُجيل ورجاله الـ35 الذين سمتهم السجلات المصرية بـ الفلاتية (أي الذين أْفْلِتَ زمامهم) وكانت تلك هي التسمية الأولى للمطاريد، وقد قام هريدي بإحداث خسائر كبيرة في صفوف ولاة الباشا في الصعيد.
لكن مشكلة هريدي الرُجيل كانت أنه لم يتخذ من ولاة الباشا خصمًا فقط، بل اتخذ من الأهالي خصومًا، فقد كان هريدي ورجاله يسيرون في الطرقات بأسلحتهم يسرقون الأبقار والحمير من القرى، ويبيعونها من أجل شراء الأسلحة؛ كما هاجموا سوق دشنا الكبير بهدف أخذ ما تيسر لهم نهبه من المشروعات والمحاصيل هناك، ثم فرض إتاوة على البائعين والمشترين، ومن هنا بدأت النزعة الإجرامية في تاريخ مطاريد الجبل.(2)
من العام 1846م وحتى منتصف القرن العشرين تطور وضع المطاريد اسمًا ووضعًا، فبدأوا بـ فلاحين فتنة، ثم الفلاتية، وبعدها الأشقياء، ولاحقًا المطاريد، وكثيرون منهم اشتهروا وارتبطوا بالذاكرة الشعبية مثل أدهم الشرقاوي، وياسين عاشق بهية، والخُطْ وغيرهم كُثُر.
المواجهة بين الدولة والمطاريد في التاريخ المعاصر
في عصر الرئيس جمال عبدالناصر وتحديدًا خلال ستينيات القرن الماضي كثرت جرائم مطاريد الجبل بين أسيوط وسوهاج، خاصةً في الفترة بين شهر يونيو وسبتمبر من العام 1967م وحتى 1969م؛ فقد أجرت جريدة الأهرام إحصاءًا بتلك الجرائم فكانت موزعة على النحو التالي
- 174 جريمة في عام 1967م «20 جريمة في شهر يونيو، 48 جريمة في يوليو، 57 جريمة في أغسطس، 49 جريمة في سبتمبر».
- 272 جريمة في عام 1968م «49 جريمة في يونيو، 76 جريمة في يوليو، 82 جريمة في أغسطس، و65 جريمة في سبتمبر».
- 222 جريمة في عام 1969م «39 جريمة في يونيو، 61 جريمة في يوليو، 65 جريمة في أغسطس، 57 جريمة في سبتمبر».
ويلاحظ أن الأرقام ترتفع في يوليو وأغسطس عندما يكتمل ارتفاع الذرة، ويقوم بتنفيذ هذه الجرائم عدد 182 هاربًا، لتقرر الدولة عام 1970م مواجهة مطاريد الجبل.(3)
البؤرة التي قررت الدولة استهدافها هي منطقة الجبل بين أسيوط في مركزي صدفا والغنايم، وسوهاج في مركز طما، وتلك المراكز كانت تمتد على شريط مستطيل يوازي الطريق المرصوف المقترب منه، فضلاً عن أن الجبل بتفاصيله هو منطقة وعرة، ويسكنها 182 فردًا من مطاريد الجبل.
كان اللواء مصطفى علواني وكيل وزارة الداخلية ومعه اللواء نيازي حتاتة مدير الأمن العام، هما المكلفان بوضع تصور خطط الاقتحام فذكروا في تقريرهم أن منطقة الجبل بين أسيوط وسوهاج تأخذ شكل منحنى في مواجهة المراكز الثلاثة الغنايم وصدفا وطما، والتي تتميز بقرب الجبل الصخرى منها حيث العدد الكبير، وبعضها يمتد 5 كيلو مترات في بطن الجبل.
أما الهاربين فعددهم 183 شخص، منهم 100 فرد من أسيوط بينهم 9 هاربين من ليمان أبو زعبل وسجن أبو تيج وأسيوط ومحكمة أسيوط، موزعين بجرائمهم على النحو التالي:-
- 65 فرد من المطاريد ارتكبوا جرائم قتل
- 13 فرد من المطاريد ارتكبوا جريمة ضرب أدى لعاهة
- 9 فرد من المطاريد في قضايا حيازة أسلحة
- 7 فرد من المطاريد في قضايا سرقة بالاكراه
- 3 فرد من المطاريد في قضايا اتجار وتعاطي مخدرات
- 7 فرد في قضايا مختلفة
وأبرز المطلوبين من محافظة أسيوط هم «1) عبد المنعم تمام أحمد – عمره 25 سنة – من قرية بني فيز – هارب من حكم بالأشغال الشاقة بتهمة القتل العمد وجريمة شروع في قتل، 2) علام أحمد محمد عبدالكريم، من البداري، هارب من 4 أحكام مجموعة 40 سنة، 3) مصطفى محمود أحمد – عمره 25 سنة من صدفا – هارب من جريمة قتل ارتكبها سنة 1963م عام 1963م، 4) حمدي يونس شرقاوي – من الغنايم – هارب من حكم في جريمتي قتل وشروع في قتل من العام 1969م، 5) حمدي يونس شرقاوي – من الغنايم – هارب من جريمة قتل».
أما محافظة سوهاج فتضم 83 هاربًا من جنایات بينهم 5 هربوا من سجن أبو زعبل وسجن البلينا، وجرائمهم موزعة على النحو التالي
- 8 فرد من المطاريد في قضايا قتل ومخدرات
- 22 فرد من المطاريد في قضايا إحراز أسلحة
- 5 فرد من المطاريد في قضايا خطف
- 48 في قضايا مختلفة
تشكلت فرق المطاردة في منتصف عام 1970م من أفراد مجندين أخذوا دورات صاعقة، وتم تجهيزهم بمجموعة حديثة من الأسلحة كان أحدثها طرازًا حينها مدفع الجرينوف، والجنود مقسمون إلى جماعات يقود كل منها ضابط برتبة الملازم أو الملازم أول وهؤلاء القادة المباشرون يقيمون بصفة مستمرة مع الجنود ، أيضًا يقيم معهم القادة الأعلى مستوى.
وبشأن الطعام فيحمل كل فرد منها حقيبة قماش صغيرة بها طعامه الجاف الذي يكفيه ليوم كامل، وذكر اللواء عبدالحميد جابر مدير أمن أسيوط واللواء كمال فرويز في تصريحاتهما للأهرام حينها أن الطعام الجاف لا يتم استخدامه إلا في أوقات الضرورة وتحديدًا عندما تدور معركة تستغرق النهار بطوله، وتتولى المديريتين إعداد الطعام الطازج الساخن؛ ولم تدم المواجهة بين الدولة والمطاريد طويلاً إذ انقضى ذكرهم في منتصف السبعينيات لتنتهي قصة مطاريد الجبل في مصر من حينها وتبقى فقط بعض الحالات الفردية.
(1) خالد فهمي، كل رجال الباشا، ترجمة: شريف يونس، ط/1، دار الشروق، القاهرة، 1422هـ / 2001م، ص135.
(2) محررون، تاريخ مطاريد الجبل في صعيد مصر.. لصوص أشقياء أم ثوار مهمشون؟، موقع ساسة بوست، 29 نوفمبر 2020م
(3) محمود مراد، الجبل محاصر وفي جوفه 182 هاربًا، جريدة الأهرام، عدد 5 أغسطس 1970م، ص3.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال