“تحقيق -” قصص يهود ضد إسرائيل قُتِلُوا وسُجِنوا لأنهم مع فلسطين
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تخللت فترة الصراع العربي الإسرائيلي وجود يهود ضد إسرائيل رفضوا فكرة إقامة دولة يهودية بفلسطين وصرحوا علنًا بعروبتها؛ وكان آخر شكل لوجود يهود ضد إسرائيل متمثلاً في الوقفة اليهودية الأكبر في تاريخ أمريكا ضد إسرائيل والتي نفذتها منظمتي “الصوت اليهودي من أجل السلام” و”IfNotNow”.
كيف بدأ وجود يهود ضد إسرائيل
تعارض اليهودية كديانة وجود دولة لليهود في فلسطين وذلك لمخالفتها التعاليم التوراتية التي ترى أن اليهود يبقوا مشتتين لحين عودة المسيح، وبالتالي وجود يهود ضد إسرائيل لم يكن جديدًا ولا وليد الصراع العربي الإسرائيلي الذي بدأ منذ تقسيم فلسطين عام 1947م ولا حتى منذ وعد بلفور، وإنما نشأ تزامنًا مع وجود فكرة الصهيونية نفسها.
اقرأ أيضًا
“جرائم الكيان قبل الاحتلال (1-4)” تجهيز فلسطين للإبادة بدعم دولي [1840م – 1920م]
ليس ثمة دليل على وجود يهود ضد إسرائيل كفكرة سوى أن المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897م كان سينعقد في ميونخ بألمانيا، وبسبب وجود معارضة يهودية عنيفة لفكرة الصهيونية انتقل المؤتمر إلى بازل بسويسرا.(1)
أبرز اليهود الذين كانوا ضد الصهيونية وإسرائيل ومصيرهم
منذ نشأة الصهيونية كفكرة برز أسماء شخصيات يهودية ضدها، لكن كل شخصية من هؤلاء كان لها مصير مختلف.
يعقوب إسرائيل دي هان
أول يهودي ضد الصهيونية يتم اغتياله
كانت شخصية المحامي يعقوب إسرائيل دي هان دراماتيكية إلى أقصى حد، فقد كان من أشد مؤيدي فكرة إقامة دولة لليهود في فلسطين، ثم صار واحدًا من ألد ألد أعداءها؛ وفي الحالتين طوع مهاراته وموهبته في الشعر والأدب لذلك.
في قرية سميلدا التابعة لمقاطعة درينثي الشمالية في هولندا، ولد أستاذ القانون يعقوب إسرائيل دي هان سنة 1881م لأسرة ميسورة الحال إذ كان والده مدرسًا وله 17 أخ.(2)
عمل يعقوب إسرائيل دي هان مدرسًا في إحدى المدارس الثانوية بهولندا، ولم يكن يهوديًا متدينًا في بداياته، فمع سنة 1904م كتب روايته Pijpelijntjes (خطوط دي بايب) والتي كانت عن المثلية الجنسية وتكلم فيها عن قصة حب بين رجلين هما جوب وسام في حي دي بايب بأمستردام، وأدت تلك الرواية لفصله من عمله كمدرس(3)، وبعد سنتين تزوج من الطبيبة فان مارسفين وكانت غير يهودية.
في سنة 1912م سافر دي هان إلى روسيا وتفقد عددًا من سجون القيصر لدراسة أوضاع المعتقلين السياسيين بها، وكتب كتابًا عن تلك التجربة بعنوان In Russian prisons (في السجون الروسية) عام 1913م، وقام بعمل حشد أوروبي للضغط على روسيا من أجل التخفيف عن السجناء والذي كان من ضمنهم يهود.
زيارة دي هان إلى سجون روسيا القيصرية ومطالعته لحال اليهود هناك كان عاملاً أساسيًا لتفتق ذهنه على أوضاع اليهود في العالم، ورويدًا رويدًا بدأ بأفكار الصهيونية، فوضع ديوانين شعر باسم الأغنية اليهودية سنة 1915م و1921م.
ترجم دي هان اقتناعه بأفكار الصهيونية بعد أن ترك الاشتراكية وطلق زوجته، إذ سافر إلى فلسطين كأول هولندي يهودي يذهب إلى هناك سنة 1919م وعمل مراسلاً لدي جروين أمستردام ومجلة ألجيمين ومجلة لجريدة أمستردام ويكلي.
لكن مع مطلع العشرينيات تعرف على يوسف حاييم سونينفيلد حاخام اليهود الأرثوذكس في فلسطين وزعيم الطائفة اليهودية الحريدية بالقدس والرافض لفكرة وجود وطن لليهود في فلسطين، وقد اقتنع يعقوب إسرائيل دي هان بتلك الأفكار من منظور ديني.(4)
صار دي هان مراسلاً لجريدة ديلي اكسبريس الإنجليزية في القدس، وطوع تلك الأداة لمعاداة الصهيونية وصار متحدثًا رسميًا باسم اليهود الأرثوذكس في القدس، وقام بإرسال كثير من الدعاوى إلى عصبة الأمم ترفض إعطاء حق للصهاينة في فلسطين بل والتحدث باسم الجماعات اليهودية، مما أثار ثائرة الصهاينة عليه فوصفوه من خلال صحفهم بالخائن.
ومن أشكال التحريض الصهيوني ما كتبته جريدة إسرائيل التي كانت تصدر من مصر يوم 29 يونيو 1924م إذ قالت «أتدري أيها القارئ من هو مراسل جريدة الديلي اكسبريس الإنجليزية بالقدس، لقد بلغت الجرأة بالرجل المنشق أن يقود حركة في فلسطين تعاكس بل وتحارب اليهود الوطنيين ويستعين بخصوم الحركة الصهيونية من العرب في الفلسطين لمقاومة كل حركة وطنية يقوم بها اليهود الوطنيون، وبلغت الجرأة بهذا الرجل المارق إلى هذا الحد من التعدي على أماني أمته التي سعت لتحقيقها ألفين سنة، وإننا نسوق هذا الكلام لإخواننا المتدينيين اليهود الذين يعتبون علينا عندما نكتب عن اليهود الأرثوذكس ليكفوا العتاب وليوجهم نقدهم لذلك الرجل المارق فذلك خير وأبقى».(5)
ليقوم دي هان بتنظيم اجتماع بين الشريف حسين ملك الحجاز والأمير عبدالله أمير شرق الأردن وملك العراق فيصل الأول وكبار حاخامات اليهود الأرثوذكس من أجل مقاومة الصهاينة، وتجهيز تقرير عن الصهاينة كان سينشره على جريدة الديلي اكسبريس وكان دائمًا يقول «سوف ترون .. سيقتلني الصهاينة فهذا ديدنهم».(6)
تحققت نبؤوة يعقوب إسرائيل دي هان إذ كان يمشي بين منطقة باب الخليل وقهوة بريستول في القدس، وجاء مجهول (لم يعد مجهولاً) وأطلق عليه 5 رصاصات، وقد قام اليهود الأرثوذكس بتقديم احتجاج للحكومة البريطانية على قتل يعقوب إسرائيل دي دهان وطلبوا منها الجد وراء القاتل لإلقاء القبض عليه ومعرفة الدافعين له وإنزال العقاب الصارم بهم، المندوب السامي قام بتعزية أهل دهان.(7)
زعمت وسائل الإعلام الصهيونية كما ذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته أن قاتل دي هان هو شاب عربي كان على علاقة مثلية مع دهان والذي عليه شبهات بسبب روايته التي كان قد كتبها سنة 1904م.
لم يتم اكتشاف قاتل دهان إلى أن جاءت سنة 1985م واتضح أن قاتله هو إبراهام تيهومي عضو عصابة الهاجاناه الصهيونية وأحد مؤسسة منظمة الإرجون، والذي بعد سنة من اغتيال دي هان تولى منصب قائد الهاجاناه في القدس سنة 1925م.
ثم ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وعمل في تجارة الأحجار الكريمة، وبعد نكسة 1967م رجع إلى تل أبيب لعمل مصنع للأحجار الكريمة، وفي آخر السبيعينيات ذهب إلى هونج كونج واستقر هناك إلى أن توفي في التسعينيات.
الذي تمكن من كشف قاتل دي هان هما شلومو ناكديمون وشاؤول مايزليش الصحفيان الإسرائيليان واللذين كتبوا كتاب عن دي اغتيال دي هان سنة 1985م، إذ تعقبوا تيهومي ورتبوا له مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي.
وقال إن تيهومي قاتل دي هان أنه تلقى أمرًا دي من قائده يستحاق بن تسفي الرئيس الثاني لإسرائيل لاحقًا، وأن الكلام الذي قيل عن ارتباط دي هان بشخص عربي بالمثلية الجنسية هو كلام كاذب، وكان قتله ضروريًا لتهديده وجود إسرائيل.
تيدي كاتس
الإسرائيلي الذي أخرسته إسرائيل بالسكتات الدماغية كمدًا
مع الكلام عن يهود ضد إسرائيل يأتي نموذج أكثر غرابة من قصة يعقوب إسرائيل دي هان، وهو نموذج الباحث الإسرائيلي تيدي كاتس، والذي يقبع في بيته مصابًا بالسكتات الدماغية مشلولاً، والذي كانت جريمته قيامه بعمل رسالة ماجستير عن مجزرة الطنطورية التي نفذها جنود الكتيبة 33 من لواء إسكندروني ونفذوا فيها جريمة قتل جماعي أسفرت عن استشهاد 300 فلسطيني في ليلة واحدة.
تيدي كاتس قدم رسالته إلى جامعة حيفا في آخر تسعينيات القرن الماضي وكان قد عمل عليها طيلة سنوات وقام بتسجيل 140 ساعة مصورة مع 135 شخصًا من الصهاينة الذين نفذوا المجزرة ومن الفلسطينيين الذين ينتمون للطنطورة وتم تهجيرهم.
مُرِرَت الرسالة بشكل عادي إلى أن قامت صحيفة معاريف بنشر ملخص لها سنة 2000م وأحدثت هزةً في المجتمع الصهيوني خاصةً وأن مجرمي عصابات إسرائيل هم الآن بمثابة القادة التاريخيين للكيان، فرفعوا قضية تشهير ضده.
طلب تيدي كاتس أن تستمع المحكمة إلى الفيديوهات، لكنها رفضت وتم الضغط عليه لكتابة ما يفيد أن هناك تفاصيل معينة مصدرها عربي فقط، فوافق على ذلك، ليكون ما فعله أكبر ضربة وجهها لنفسه إذ قامت الجامعة بإلغاء رسالته، ورفضت المحكمة الاستماع إلى الفيديوهات ليصاب بمجموعة من السكتات الدماغية أبقته مشولاً حتى الآن.
المجهود الذي بدله تيدي كاتس بقي مجهولاً إلى أن قام ألون شفارتز المخرج الصهيوني بعمل فيلم وثائقي عن الطنطورة وعرضه في مهرجان صندانس للأفلام في فبراير 2022م واستعان بفيديوهات كاتس وقال في سياق فيلمه «حان الوقت لتسليط الضوء على التاريخ الصعب المتعلق بتأسيس إسرائيل وكسر الأساطير التأسيسية للبلاد، مهما كانت مؤلمة، إنه قلق على مستقبل المجتمع الإسرائيلي إذا لم يستطع إقناع نفسه بما يسميه الفلسطينيون بالنكبة، أو التطهير العرقي ونقل مئات الآلاف من السكان العرب المحليين كعملية ضرورية لإقامة دولة يهودية، وإسرائيل لا يمكنها المضي قدما كدولة يهودية ديمقراطية إلا إذا كانت صادقة بشأن قتل القرويين العرب».(8)
عمرام بلاو
أحد الآباء الروحيين ضد الصهيونيين
تتسع قائمة يهود ضد إسرائيل كحركات تنظيمية منذ نشأة الصهيونية مثل حركة الاتحاد المركزي للمواطنين الألمان من أتباع العقيدة اليهودية، وحركة بريرا وعائلة مونتاجو، لكن تبقى حركة ناطوري كارتا هي أشهر المنظمات اليهودية المعادية للصهاينة.
أسس هذه الحركة الحاخام عمرام بلاو وكان يهوديًا من مواليد القدس واستطاع أن يفصل بين اليهود الأرثوذكس والصهاينة لتبدأ حركة ناطوري كارتا سنة 1938م ومعناها حراس المدينة، ترجمت ناطوري كارتا معاداتها للصهيونية عمليًا منذ صدور قرار تقسيم فلسطين، فقد خرجوا في مظاهرة داخل القدس وقامت العصابات الصهيونية بإطلاق النار عليهم، بل وفي السبعينيات راسلت رئيس أمريكا بضرورة فصل القدس عن الصهاينة.(9)
هذا الموقف الذي اتخذته ناطوري كارتا يجيء من رؤيتها الدينية للمسألة فهي ترى أن الصهيونية لا تمثل استمرارًا للتعاليم اليهودية وإنما انسلاخًا عنها، إذ أن نفي اليهود من أرض الميعاد هو من الأوامر الإلهية إلى حين ظهور المسيح وهو الذي سيقيم الدولة، وبالتالي تأسيس دولة يعني كفر.(10)
لم تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي تجاه تحركات الناطوري كارتا، فقد اعتقلت مؤسسها أكثر من مرة وتم سجنه على فترات متقطعة حتى وفاته سنة 1974م، وإلى الآن تواصل جماعة ناطوري كارتا مهاجمتها لإسرائيل وتتعرض لتضييق أيضًا من أجهزة الأمن الصهيوني كحالة يتسحاق بيرغيل الذي ألقي القبض عليه في يوليو 2013م بتهمة التخابر مع إيران وحكم عليه بالسجن 4 سنوات.(11)
(1) عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، م6، ج4، ط/1، دار الشروق، القاهرة، 1999م، ص407.
(2) David B. Green, This Day in Jewish History Zionism’s First Political Assassination, Haaretz, 30 Jun 2013.
(3) Pijpelijntjes Jacob Israël de Haan, literatuurgeschiedenis
(4) Menachem Friedman, ‘Haredim and Palestinians in Jerusalem’, Syracuse University Press, 2002, pp.235-255.
(5) جريدة فلسطين، عدد 4 يوليو 1924م، ص1.
(6) عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، م6، ج4، ص425.
(7) جريدة لسان العرب (تصدر من القدس)، عدد 5 يوليو 1924م، ص3.
(8) محرر: مخرج الفيلم الوثائقي “الطنطورة”: إسرائيل تستمر في إنكار المذابح التي قامت بها ضد الفلسطينيين، موقع تايمز إسرائيل (بالعربي)، 6 فبراير 2022م
(9) عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، م6، ج4، ص428.
(10) أحمد فؤاد أنور، الصحافة الدينية في إسرائيل بين قضايا الصراع مع العرب والتناحر الداخلي، ط/1، عالم الكتاب، القاهرة، 1426هـ / 2006م، ص74.
(11) Israeli Neturei Karta member sentenced for spying for Iran, JANUARY 28, 2014, Jewish Telegraphic Agency
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال