همتك نعدل الكفة
405   مشاهدة  

توماس بيكيت وهنري الثاني .. ثنائية مأساوية بين بلاط الملك ومذبح الكنيسة

توماس بيكيت والملك هنري الثاني
  • باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



وصل الملك هنري الثاني إلى عرش انجلترا حاكمًا عليها في سنة 1154 م وكانت لندن قد أنهت حربًا أهلية داميةً دامت لسنوات واعْتُبِرَت أشرس الحروب الأهلية في العصور الوسطى، وسادها بعد ذلك عدد من البارونات الأنانيين المتشبثين بمراكزهم وكاد العدل أن يختفي، غير أن الحظ ابتسم لإنجلترا عندما تولى هنري الحكم، إذ كان الرجل المناسب تمامًا ليعيد النظام للبلاد.

هنرى الثانى
هنرى الثانى

لم تكن لدى الملك هنري الثاني إرادة فولاذية فقط، بل كان يراقب تنفيذ الأوامر التي يصدرها، فقد كان في مقدوره أن يواصل العمل زمنًا طويلاً، بعد أن يتهالك الآخرون من التعب المضني، وكان واجبه الأول نشر السلام، وصدرت الأوامر للبارونات للتخلص من الجنود الأجانب الذين جلبوهم داخل البلاد، وتقويض وهدم القلاع التي بنوها بطريقة غير قانونية.

القانون في انجلترا زمن هنري وظهور بيكيت

لندن في العصور الوسطى
لندن في العصور الوسطى

حَوَّل هنري اهتمامه نحول إقامة العدل، ولم يكن يسود أنحاء البلاد قانون واحد في تلك الأيام، بل كان لكل بارون ساحة قضائه الخاصة، كما كان لديه مجموع قوانين، وبالتأكيد كان الملك له ساحات قضاء خاصة به، لكنها كانت تحاكم الذين ارتكبوا جرائم تمس أرض الملك وحده أو طرقه العامة، أو الذين يرتكبون الجرائم في حضوره، وأصر أن يكون لقضائه السلطات الأعظم، وما كان لينجح في ذلك بدون توماس بيكيت.

توماس بيكيت - تمثال
توماس بيكيت – تمثال

كان توماس بيكت ابنًا لواحد من تجار لندن الأثرياء، وتلقى قدرًا طيبًا من التعليم، ثم التحق بخدمة رئيس أساقفة كانتربري، وسرعان ما جذب انتباه هنري الثاني الذي عينه رئيسًا لوزراء، وأصبح الرجلان صديقين حميمين، يخرجان للصيد معًا ويمزحان سويًا، وكان نفس الأمر يختمر في ذهنيهما دائمًا وهو زيادة سلطان الملك وقانونه وساحات قضائيه ونجحا في ذلك إلى حدٍ بعيد، لكن عقبة واحدةً كانت تقف في سبيل نشر قانون الملك وهي الكنيسة.

كاتدرائية كانتربري
كاتدرائية كانتربري

تمتعت ساحات القضاء الكنسية بامتيازات واسعة أهمها حقها الشرعي في محاكمة رجال الكنيسة المتهمين بأية جريمة، وقد لا يبدو هذا الأمر خاليًا من المنطق، لكن رجال الكنيسة لا يضمون القساوسة فحسب، ولكن أيًا من كان له ارتباط ما بالكنيسة، مثل حاملي الصوالج أمام الأساقفة وقارعي الأجرس وحفاري اللحود وكناسي الكنيسة، كما أن الأحكام الخفيفة التي تصدرها محاكم الكنيسة كما كان معلومًا، أخف بكثير من تلك التي كانت تصدرها ساحات القضاء الملكية، وكثيرًا ما كانت الجرائم الرهيبة تمضي دون عقاب لأن المجرم استطاع أن يدفع أمام المحكمة بوجود ارتباط ما بينه وبين الكنيسة.

الوفاق والشقاق بين توماس بيكيت والملك هنري 

توماس بيكيت والملك هنري 
توماس بيكيت والملك هنري

عقد هنري العزم على تغيير ذلك وأصر على وجوب تسليم المرء لساحة القضاء الملكية، لتوقيع العقوبة إذا ما أدانته ساحة قضاء كنيسة، وكان يعلم أن صراعًا مريرًا سوف ينشب حول ذلك، لكن كانت لديه خطة مستقرة في ذهنه، فإن أسقف كنتربري قد قضى نحبه لتوه، فلماذا لا يعيد صديقه الحميم بيكيت مكانه، سيكون في مقدورهما آنذاك أن يعملا معًا للتقليل من سلطان البارونات، وبدا ذلك كله سهلاً ميسورًا، إلا أن صدعًا قاتلاً أصاب الخطة، فقد أساءت فهم شخصية بيكيت واليوم يبدو بعيدًا عن التصديق أن يقع هنري في مثل هذا الخطأ وهو الذي يعرف بيكيت حق المعرفة، فبيكيت رجل يسري في نفسه عجب وخيلاء ولسوف يملأ أي منصب يحتله بأقصى قدراته، وهكذا تولى منصب مستشار الملك وخادمه واحدًا من أعظم الوزراء حازهم أحد الملوك على الإطلاق، أما إذا ما كان عليه أن يصبح على رأس الكنيسة الإنجليزية، فلسوف يكرس نفسه كليةً لتلك الكنيسة، وتجيء صداقته وولاؤه للملك في المرتبة الثانية، فكانت فكرة توليه رئاسة الكنيسة لمجرد خيانتها أمرًا منافيًا لطبيعته ومن ثم ألح بيكيت في رجاء الملك ألا يستمر في خطته قدما، غير أن هنري أصر.

اقرأ أيضًا 
طقس ديني وبديل للنقود..لماذا حرمت الكنيسة تناول الشوكولاتة؟

في 1162 وجد بيكيت نفسه فجأة وقد تم تنصيبه رئيسًا للأساقفة، وسرعان ما تغيرت شخصيته تمامًا، فبينما عاش من قبل في أرض شاسعة مع آلاف الخدم، يلبس أفخر الثياب ويأكل في صحاف من ذهب، فقد نحى الآن ذلك كله جانبًا فعاش حياةً خشنةً بسيطةً يغسل أقدام المتسولين ويلبس على جلده ثوبًا من الخيش، وكما كان من قبل يعمل ولا يكل من أجل الملك، بات يعمل ولا يكل من أجل الكنيسة وعندما أثار هنري أمر ساحات القضاء الكنسية رفض بيكيت التخلي عن أي من الامتيازات.

تابوت هنري الثاني وزوجته
تابوت هنري الثاني وزوجته

دار الصراع بين الرجلين والتزم البابا الحياد، وبالتالي وجد هنري كافة التهم ليواجه بها بيكيت الذي فر إلى فرنسا ويبقى فيها منفيًا 6 سنوات، ثم عاد من المنفى وأراد هنري أن يتوج ابنه لكي ينتفي احتمال حدوث جدل عمن سيكون على العرش من بعده، وأقيم الاحتفال برئاسة كبير أساقفة يورك مع 6 أساقفة، وكان المتوقع أن يحضر كبير أساقفة كنتربري، لكن ما إن عاد بيكيت إلى انجلترا حتى وقع أقسى ما في مقدوره من عقوبة على الأساقفة، حيث أوقع عليهم عقوبة الحرمان الكنسي وطردهم من الكنيسة، وحينها كان هنري في فرنسا وعندما سمع بالأمر تملكه الغضب وقال «يا لهم من قطيع من البلهاء والجبناء .. ربيته في بيتي .. وإلا لثأر لي أحدهم من هذا القسيس المتمرد».

نهاية توماس بيكيت

لوحة مقتل بيكيت
لوحة مقتل بيكيت

لم يطق 4 من فرسان هنري ذلك التأنيب فغادروا فرنسا في الحال إلى انجلترا وقصدوا كنتربري رأسًا وفي 29 ديسمبر 1170 م وجدوا توماس بيكيت على وشك إقامة صلاة المساء، وطلبوا منه إلغاء عقوبة الحرمان الكنسي من على الأساقفة لكنهم رفضوا فقتلوه على درجات المذبح.

إقرأ أيضا
يوسف شهيد غزة
هنري يعاقب نفسه
هنري يعاقب نفسه

ووصلت الفضيحة أسماع الشعب، وهنري وإن كان قد أشفى غليله لكنه ارتعب من الخبر وأدرك أن موقفه سيكون عسيرًا فأوفد رسلاً ومندوبين للبابا ليوضح له أن تلك الفعلة لم تكن بعلمه، وقام برحلة إلى أيرلندا حتى يتجنب أي فكرة شعبية غير مستحبة في وطنه، ثم قابل الموفدين البابويين الرسميين عام 1172 وقد أُحِل من تبعة الجريمة، وخاف هنري لمسؤوليته عن مقتل بيكيت فظل يصلي طول الليل طالبًا الغفران فوق قبر بيكيت وامر الرهبان بأن يجلدوه.

مكان مقتل بيكيت حاليًا
مكان مقتل بيكيت حاليًا

لم يذهب موت بيكيت عبثًا فقويت الكنيسة أكثر واضطر هنري للسماح بالدعاوى بأن ترسل من ساحات القضاء المسيحية الإنجليزية إلى روما التي كانت روابطها أوضح مع البابوية.

المراجع

الكاتب

  • توماس بيكيت وسيم عفيفي

    باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان