حتى لا ينصرم إبريل وتنصهر ذاكرتنا “بحر البقر لا زالت تفوح بأسرارها”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
أشرقت الشمس ممدة أشعتها على قرية بحر البقر الصغيرة في محافظة الشرقية لتنال زروعها الخضراء اليانعة وتدفئ بحرارتها البيوت الصغيرة ذات البناء اللبن، ولتكون شاهدًا أيضًا على يوم عصيب لم تمر به البلدة من قبل ولم يخطر على بالها صوت ضحكات تتعالى ممتزجة مع صراخ صبياني يعطي بريقًا للحياة لأطفال لم يتجاوزوا مرحلة النضوج العقلي ولا الجسماني بل هم صور لملائكة على الأرض لم يجري عليهم القلم بعد.
اقرأ أيضًا
حين صدرت بنها الطين إلى ألمانيا واستوردت بلغاريا الحنة من الشرقية
ودع الآباء والأمهات أطفالهم بقبلات تفوح منها رائحة الحلم الصغير على أمل صغير كان ينمو أمام ناظريهم شيئًا فشيئًا كلما كبر أبناؤهم، متجهين إلى مدرستهم حاملين على ظهورهم حقائبهم التي بداخلها أحلامهم الصغيرة اليانعة، مجتمعين داخل مدرسة صغيرة تسمى بحر البقر، تلك المدرسة التي تتكون من طابقٍ واحد بداخليه 3 فصول، وبجانبهم غرفة للمعلمين وغرفة مجاورة للإداريين وبالأسفل مكتب للناظر واستراحة واسعة للعمال.
وفي ذلك الصباح الخريفي الهادئ وفي تمام الساعة التاسعة صباح يوم 8 إبريل 1970 م، كانت أصوات ترديدهم لدروس معلميهم تتعالى منطلقة دون قيود إلى حد السماء، تاركةً على ملامحهم البريئة اللاهية في الدرس البهجة في سرعة الترديد.
صدى صوت مخيف طرأ عليهم ونشر الصمت فيما بينهم بعد ما سمعوه من أصوات طائرات الفانتوم الإسرائيلية تحلق فوق مدرستهم استغرقوا أقل من دقيقة في صمت ووجوم رسم على وجوههم الخوف وبث في أجسامهم الارتجاف، حتى صمتوا إلى الأبد.
خلفت طائرت الفانتوم الإسرائيلية المحلقة فوق مدرسة بحر البقر والتي قامت بقصفها دون رحمة أو سابق إنذار ثلاثين طفلا قتيلاً سفكت دماءهم بدم بارد وتركت عاهات مستديمة في 50 آخرين بين بتر لأطرافهم وتشوهات وحروق في أجسادهم، وهو نفس المصير الذي لاقاه الكبار من المدرسين والإداريين والعمال.
لم يتوقع الأطفال الآمنين في حرم مدرستهم ولا أحد من أهاليهم أو سكان القرية أن الموت أتى ليخطف أحلامهم بهذه الصورة البشعة المجردة من الإنسانية.
يحكي عبدالعال السيد «والد أحد شهداء مدرسة بحر البقر» بصوتٍ تخنقه الدموع ممتلئ بالحسرة تفاصيل يوم المجزرة قائلاً «يوم ضرب المدرسة كان ضربة عنيف جدًا، الولد في آخر سنة ابتدائية، وجا في يوم 8 إبريل قال لي زمايلي بيسرقوا مني الأقلام يا أبا، فقلت له إوعى تمد إيدك على عيل تاخد منه حاجة، إن عوزت قلم أجيب لك 3، وإوعى تمد إيدك على حد، روح يا ولد إوعى تقعد، روح عشان تتعلم وتبقى ظابط، قالي طيب يا أبا».
وتابع عبدالعال السيد كلامه قائلاً «خدت البقرة في إيدي ومشيت، حاجة يعني زي 500 متر وماشوفتش غير الضربة والدخان، سبت اللي في إيدي وطلعت جري، بقيت أمشي أتخبط مش شايف حاجة من الدخانة، رحت لقيت المدرسة مضروبة والناس بتقلي انت رايح فين، قلت رايح أشوف فيه إيه، قالوا المدرسة انضربت والعيال راحت، لقيت العيال زي القراميط اللي بتتشوى على النار، شيء كدة ألهمني، فضلت أشيل العيال وأكوِّم، نص عيل أو راس عيل».
هكذا عرفنا بحر البقر وحفظ التاريخ اسم 19 شهيدًا لهذه القرية، لكن لا زالت إسرائيل تتنصل من تلك المجزرة الدموية حتى اليوم.
على جانب آخر من أمام لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة، تنكشف شهادة مؤلمة من مهجري القناة وسيناء بعد نكسة 1967 على لسان شيخ قبيلة بير العبد والنجيلة حيث روى أن القنابل التي ألقت بها الطائرات الإسرائيلية على قريته قتلت عددًا من التلاميذ الذين كانوا يؤدون امتحان الشهادة الإعدادية في بير العبد بالقرب من رومانة، وهرب الناجين منهم مع أسرهم إلى الشرقية ومحافظات الدلتا وكانت المأساة الكبرى عندما التحق الأطفال الهاربين من العدوان الإسرائيلي الغاشم على مدرسهم في بير العبد إلى مدرسة بحر البقر، وكأن شبح الموت لم يتركهم فخيم عليهم رغم فرارهم منه، أي هربوا من الموت في سيناء ليجدوه في انتظارهم داخل مدرسة بحر البقر.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال