حكاية (1) .. اقــرأ

“أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: “اقرأ”.

فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :”فقلت له: ما أنا بقارئ”.

قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: “اقرأ”.

فقلت: “ما أنا بقارئ”.

فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: “اقرأ”.

فقلت: “ما أنا بقارئ”.

فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )“..

هكذا روت السيدة عائشة حديث النبي حول واقعة غار حراء واستقبال الوحي لأول مرة.. حيث كان يتعبد! بالغار في الليالي ذات العدد – ويُقصد بها الليالي الفردية. السؤال هنا: بأي دين كان يتعبد؟ وإلى أي إله يتقرب؟

بالطبع لم تقتصر ديانات العرب قبل الإسلام على الوثنية وعبادة الأصنام.. بل شهدت مكة حضور قوي لأهل الكتاب، سواء كان يهود كـ يهود يثرب.. أو نصاري أو حتي الإبراهيمية.. وهو ما يُطلق عليهم أهل الكتاب.. ولعل أبرز شخصية تاريخية عُرفت بكونها على علم بالكتاب ورقة بن نوفل.. وإن اختلف المؤرخون حول ديانته، فالبعض يرجح أنه كان يهودياً والبعض الآخر يري أنه كان مسيحياً. غير أنهم اتفقوا جميعا على أنه من أهل الكتاب.. الكتاب/ الكتابة.. وهو أيضاً أول من آمن بالرسالة المحمدية بعد خديجة.. بل هو المبشر الأول بتلك الرسالة حين علق على وقعة الغار قائلاً: “هذا الناموس الذي أنزل الله على موسي”.

ولنعود إلى واقعة حراء وما دار بداخل الغار.. ولنتأمل فعل الأمر (اقرأ).. وهو فعل مشروط بالضرورة.. فإنه لا يجوز أن آمر بالقراءة دون وجود مادة مكتوبة وإلا أصبح الفعل تعجيزي.. فماذا أقرأ؟!

غير أن الواقعة تستبعد هذا السؤال المنطقي وتستبدله بـ “ما أنا بقارئ”.

ثم يأتي التأكيد على الأمر (اقرأ) وتأتي الإجابة نفسها (ما أنا بقارئ).. وكأنه توكيد ضمني بعد وجود نص يُقرأ من الأساس.. ثم يتنزل النص: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم)..

ليبدأ القرآن بأول كلمة وأول أمر إللهي (اقرأ).. وهي دعوة مفتوحة للمطالعة.. والمعرفة أيضاً.. فأنت ستقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق.. والعلق هو الجنين في مراحل تكوينه الأولي.. تلك المراحل التي يبدأ فيها بالتشكيل وتحديد الهوية قبل الخروج للحياة..

لعل ذلك ما جعل السورة نفسها تُسمي بسورة (العلق) بداية التكوين الداخلي.. ثم حث آخر على القراءة: اقرأ وربك الأكرم.. الذي علم بالقلم.. والقلم هو الأداة التي يتم به التدوين وتسجيل الكتابة.. وهي الأداة التي سيقسم بها الرب (والقلم وما يسطرون).. في سورة حملت اسم (القلم) فأي تقدير وإشارة ربانية نحو تلك الأداة وأهميتها..

تلك الأداة التي يسبقها العلم (الذي علم بالقلم) فتنتج علم (علم الإنسان ما لم يعلم) وكأن الآيات تحمل وصفة للمعرفة البشرية عن طريق القراءة والملاحظة فهو من خلق الإنسان – وهنا إشارة للبشرية دون أي تميز، فقد خلق أي إنسان- من علق وهي ملاحظة علمية تستوجب الدراسة والتفكير سواء العلمي أو الفلسفي ثم يأتي القلم للتدوين وتمرير المعرفة.. وتمرير المعرفة هي الغاية الكبري للبشر.. ربما لذلك سبق فعل الأمر (اقرأ) جميع الأوامر والنواهي.. فلا خير يرجي لمن لا يقرأ ويلاحظ ويتعلم ويُعلم..