ربما خشّيَتْ من ذبحها إذ تمردت!
لأني حواء ، أعلم أني وُضعت بين فكي الرحى في مجتمع قدّم أروع آيات القسوة وتفنن في كسر كبريائي وثقتي بنفسي، أعلم أني بين القوة والضعف أصبحت أقف حائرةً أي الأسلوبين أتبع، كلاهما مضني ومُتعب، والمزيج بينهما ترفضه شعوبنا، راق لي إسكتش قُدم في مسرحية “مفيش مشكلة خالص” للفنان محمد صبحي، فقد حاولت البطلة إقناع والدها (عبدالقوي) ومديرها في العمل (عبد الجبار) بأنها كيان ويجب التعامل معها هكذا إلا أنها قُوبلت بالرفض التام حتى من زوجها (عبدالمُهيمن).
لاني حواء ، شتات تفكيري هو سيد الموقف أيها المجتمع، خُلقت بعاطفة ميزتني وماكدت أفرح بها حتى حولتموها لعيب وعبء ولم تكترثوا، أجبرتموني أن ارتدي ثوب القوة ولكن سرعان ما نفرتم منيّ، ونعتموني بصفات غريبة لم تكن يوماً فيّ، لا أريد عبد الجبار أو عبدالقوي وكذلك عبد المُهيمن، أريد عبدالرحمن، عبدالرحيم أو عبد السلام.
21 عاماً هم حصيلتي من الحياة، لذلك أتوقع أن يصفني البعض بخلّو جعبتي من التجارب الحياتية، لكن ما يجهلونه حقاً هو أن التجارب كتمثال العدالة، معصوبة العينين لا ترى ذلك الرقم الذي يُوضع قبل كلمة عام ليمّيزني عمراً، بلى -أيها السادة- فبجعبتي حكايات مرّت من خلالي، وليس بجانبي، لسيداتٍ جمعتنا سوياً التاء المربوطة، وباعد بيننا الفكر وتلك الكلمة التي لو تجسدت في إنسان لم أكن لأتردد ثانية في قتله وهي كلمة “الظروف”.
فوسط العادات والتقاليد والأعراف السائدة في قرى ونجوع مصر، يُرفع الستار عن مشهدٍ مُعتاد نجد فيه الرجل يستيقظ باكراً ليذهب إلى عمله سعياً وراء لقمة العيش، وذلك لإعالة أسرته.
على الجانب الآخر، تبذل امرأة كل الجهد ليل نهار لتتحّمل ألم الحمل والولادة والرضاعة وتربية الأطفال بالإضافة إلى أعمال المنزل من طهي وتنظيف وغيره، ناهيك عن إن كانت تسعى وتعمل لتحقق ذاتها خارج المنزل، الأمر الذي يزيدها انهاكاً وتعباً.
المُخرج، المجتمع الذكوري، هنا وعلى الرغم من مجهود المرأة، لم يكن عادلاً وأعطى دور البطولة للرجل، وسلّط الأضواء عليه.
أما السيناريو، المٌعتقدات المنتشرة، قد قدّم حبكة درامية بدأت بأن “المرأة أقرب للفطرة من الرجل”، لذلك ميّزها الله عز وجل وأعّد لها عاطفةً لتتحمل كل هذا التعب ويزيد، وانتهى “بناقصات عقل ودين” معلناً تحول صريح للميزة التي حباها الله للمرأة حيث عاطفتها وفطرتها، إلى عبء وسُباب يثير غضبها من الذكور وأشباههم.
“الفرخة اللي تدن تندبح” عبارةُ خرجت من فم جدتي يوم أن صمّمت وأنا اتناقش معها حول وضع المرأة في المجتمع أنها تساوي الرجل، كان ذلك إثر رفض إحدى الأقارب الضرب من زوجها، فلابد أن تتحمل الإهانة والضرب وأن تكن مدبّرة وعاقلة وتحافظ على بيتها ولا تذهب لبيت أبيها، أو تعترض، أو تطلب الطلاق؛ لأنها بذلك تكون “خربيّة” بحسب جدتي، حقاً لم أجد أشد خطورة على المرأة من امرأة تحارب بني جنسها إذ سعيّن للحصول على حقوقهن!
من يسمح لخديجة بالآذان؟
انتمت خديجة إلى والد لا يهتم بها قدر اهتمامه بالقمار، وأم لا تحمل من الأمومة سوى لقبها.
“البنت دي لازم تخرج من العلام وتشتغل عشان تجيب لي فلوس” بهذه الكلمات يتحدث الأب لابنه الأكبر مدحت، ليرد ابنه بكامل إرادته “حاضر معك حق يا والدي” ليس للمرأة سوى بيت زوجها ولا جدوى من تعليمها….
بكت خديجة بكاء شديد وهي تتوسل بألا تترك المدرسة، فهي محبة للعلم، ولكن لسطوة أخيها وأبيها قوة كافية لقتلها دون السماح لها بحق الدفاع عن النفس، وكيف ذلك وهي امرأة!
تركت المدرسة وعملت بمصنع لتصرف على قمار أبيها، حاولت الهرب مراراً وتكراراً لكن دون فائدة، تفشل في ذلك وما تحصده هو الضرب والإهانة في كل مرة.
ما قد يجعلك تقف حائراً متعجباً هو موقف الأم، التي آمنت بمبادئ غريبة، ليس لها وجود إلا في العقول التي امتهنت مهنة واحدة فقط وهي استمرار الحياة لأصحابها لا التفكير والتمحيص، والتي كان لها أشد الأثر علي مستقبل ابنتها المؤودة فكرياً.
في كل مرة تحاول خديجة أن تقنع والدتها أن تترك أبيها وتربيهم تربية صالحة بعيدة عنه وألا تنساق وراء كلام مدحت المعسول الذي يبرر الخطأ لأبيه لأنه بمثابة الإله الذي لا يجوز حتى تقويمه، ترد وتقول لها “مدحت أخوك يفعل ما يحلو له، وكلامه يُنفذ بالحرف لأنه الرجل، ولن اطلب الطلاق من أبيكي فهو أبو مدحت الغالي” جملة تحمل في ثناياها ما يقشعر له البدن، ويجعلك تقف في ذهول من هذا الفكر الذي دمر أسرتين فيما بعد، الأولي أسرة خديجة والأخري أسرة أختها عايدة.
لن تحصل الإناث على حقوقهن فقط لأنها تتعارض مع آراء الأب والأخ وفيما بعد الزوج، وهنا تكمن القضية، سياسة اللامنطق هي المسيطرة وهي الدافع الظاهر دائما عند طرق باب النقاش في مثل هذه القضايا في المجتمعات العربية التي لا تنتفض وتثور لاغتصاب أراضيها المُحتلة، لكنها حتماً ستُعلن الحرب إذ اخبرتها أن كسر ضلع البنت لن يعوض ب24.
هنا في مجتمعاتنا العربية تجد الذكر يمتلك صلاحيات أكثر من الأنثى، ليس لسبب غير أن جيناته جعلته ذكر، وإن علي أولياء الأمور أن تصحو من غفلتها، وتعي جيداً في تربيتها لأبنائها وبناتها عدم التفرقة أو التمييز وفق النوع؛ لأن ذلك يولّد الحقد والكره في نفوس الأبناء بعضهم البعض، وربما هذا هو ما حدث بالفعل مع خديجة التي كبرت وهي تكره أخيها مدحت بشدة، وفي قطيعة رحم معه بشكل نهائي، فهي لا تقبل حتى سماع اسمه.
“كنت أتمنى أن أصبح دكتورة، كان لدي طموح” في حسرة وندم شديدين تتوجع خديجة عما فاتها من قطر الحياة، فهي من قالت لأخيها ابتعد عن طريقي، ولا تتحدث باسم الدين في طاعة الوالدين، لم يأمر الله بظلم المرأة، لم يأمر الله بأن تُحرم المرأة من تعليمها وتعمل لتصرف على قمار أبيها، ثارت خديجة علي أخيها ليخمد الثاني ثورتها ويضربها دون تدخل من أمها، فإن أخيها يربيها لأنها جادلته بالحق، فمن أعطاها الحق في ذلك؟! فهي بفعلتها هذه أصبحت مثل الفرخة التي أذنت ووجب ذبحها!
“إنها تفكر، اضربيها يا أمي باستمرار” جملة لن تنساها خديجة طيلة عمرها، فقد كره مدحت أن تكن أخته مفكرةً وواعيةً، والإناث لا تتساوى بالرجال ولو حتى في حق التعبير عن أفكارها، حتي في حق التعبير عن رأيها في العريس المتقدم لخطبتها، لم تحصل عليه وتزوجت منه بأمر أبيها وأخيها.
بعد سنوات وسنوات لم تنس خديجة كل هذا حتي بعد وفاة والدتها ووالدها، لم يخلّف ذلك سوى كره وتعب نفسي وجسدي يلازمها طوال حياتها، تلوم الأيام دائماً وتشتكي من ألمها الذي فاق قدرتها على التحّمل وأعلن تمرده وخروجه من جوف قفصها الصدري ليظهر على ملامحها.
ما لفت انتباهي بشكل ملحوظ قول خديجة وهي تسخط من أوضاع المرأة في المجتمع، أنها مستاءة من بعض الآراء الفقهية والدينية المُتحدثة عن وضع المرأة في الدين، وتتعجب كيف يرضى الله هذا للنساء؟، جعلتني أتذكر على الفور قول الإمام الشعراوي ذات يوم لأئمة الفقه والدين في مصر والمجتمعات العربية “لا تكّرهوا المرأة في الدين، كونوا سفراء أصحاء لله” لذلك كان أولى لأوصياء الدين أن يحموا أنفسهم من الفهم الخاطئ للدين، لا حماية الدين من أعدائه، وحده الله المُتكفل بذلك.
فقد قدّمت أختي على منحة دراسية في دولة اليابان؛ لتحضير درجة الماجستير في علوم الكيمياء، وكنتيجة منطقية جداً لما آلت إليه الأوضاع الخاصة بالمرأة في مجتمعنا علّق والدي معترضاً على ذلك، حجة أن أختي البالغة من العمر 25 عاماً لا يجوز لها السفر وحدها، عليها أن تتزوج وبعدها تفعل ما شاءت أينما كانت، ربما لم يكن يعلم والدي بعد أن شوارع القاهرة صُنفت بأنها الأكثر خطورة عالمياً على المرأة.
وعلى كلٍ، فخديجة ليست الأولى من نوعها، فمع اختلاف الأسماء وبعض التفاصيل، تجد بطولات لنساء مختلفات قهرهّن العنف والظلم الأسري والمجتمعي، وإن كن قد تجاوزن بعض هذه المراحل الفكرية الخاطئة، وأصبح للمرأة وعي ورأي عن ذي قبل، إلا أن ذلك بنسبة وبقدر محدود غير مطلق.
لازالت لليوم أفكار ومعتقدات تسيطر علي قرى بأكملها، وإن كانت تونس قد ساوت بين الرجل والمرأة في الميراث الشرعي، فهنا في بعض قري مصر تُمنع المرأة نهائياً من ميراث أبيها، فعلي بُعد الكيلومترات من مركز السنطة، محافظة الغربية بمصر، تُوجد قرية تسمى كفر الجزيرة، تُمنع فيها المرأة بشكل كامل من ميراثها، فما أن تخرج من البيت عند زواجها، ولن يكن لها سوى حق الزيارات فقط لبيت أهلها وذويها !أما عن بعض قرى محافظة البحيرة، فلا يحضر الأب حنة ابنته وإلا يُعاب!