رجال الصف الثاني (3) شعراوي جمعة .. أعجوبة النظام الناصري
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
بأصوات دوي الانفجارات وصفارات الإنذار، دقت طلقات القنابل والرصاص الساعة إيذانا ببدء نهاية عصر الدولة الناصرية، دولة بناها جمال عبد الناصر ورجال ثورته، ولكن الغريب أنه في الخامس من يونيو عام 1967 لما يكن قد تبقى من رجال مجلس قيادة الثورة سوى 4 رجال، بينما تساقط باقي أعضاء المجلس طوال الرحلة من عام 1952 وحتى عام 1967، ولنكن منصفين فإن دولة عبد الناصر قامت على أكتاف رجال الصف الثاني من تنظيم الضباط الأحرار، هؤلاء الذين أصبحوا رجال الدولة الأقوياء ومن بينهم شعراوي جمعة رجل التنظيمات السياسية القوي ووزير الداخلية الأشهر.
♦♦♦
في تاريخ مصر العديد من الأعاجيب لا ريب في هذا، إحداها أن تجتمع سلطة التنظيم السياسي الوحيد في البلاد وسلطة وزير الداخلية في يد رجل واحد، حركة اسمها عبد الناصر “تسيس الشرطة” كما جاء على لسان شعراوي جمعة في مذكراته التي نقلها الصحفي محمد محمود عبر صفحات جريدة الجريدة الكويتية، تلك المذكرات التي جاءت في 15 جزءًا تحكي قصة صعود الرجل السياسي الأقوى في نظام عبد الناصر.
من الأحرار أم لا؟
في عام 1949 التقى شعراوي بعد الناصر، كان كلاهما مدرسًا، شعراوي في الكلية الحربية بينما كان ناصر وقتها مدرسًا في مدرسة الشئون الإدارية، رغم شعراوي في الانضمام إلى كلية أركان حرب هي السبب الرئيسي في تلاقي الشخصين، وقتها كان ناصر بكباشي أركان حرب بينما شعراوي كان يوزباشي يتجهز للدراسة للحصول على درجة أركان حرب.
جمعة كان لديه صديقه المقرب حمدي عاشور ضابط هو الآخر، وهو من عرفه إلى جمال عبد الناصر الذي كان وقتها هو والصاغ عبد الحكيم عامر يقدمان خدمة تطوعية لتأهيل الضباط للدراسة في كلية أركان الحرب، وبالفعل انضم شعراوي إلى الضباط الأحرار وزادت لقاءاته مع عبد الناصر خاصة وأن ناصر كان يخصص 3 أيام أسبوعيًا لمقابلة صغار ضباط التنظيم في جلسات مناقشة وتوعية بالحركة ودورها.
الغريب أن هناك العديد من المصادر تنفى انضمام شعراوي جمعة لتنظيم الضباط الأحرار مثله مثل على صبري الذي لم يكن من الضباط الأحرار وبعضها يستند على قائمة الضباط الأحرار التي أعدها محمد أنور السادات بنفسه بعد توليه السلطة بشكل كامل تلك القائمة التي منح على إثرها أصحابها معاشات استثنائية تكريمًا لدورهم، ولكن جمعة نفسه في تسجيلاته يحكي كيفية انضمامه للتنظيم ودور الضابط حمدي عاشور في ذلك وعلاقته بعبد الناصر.
بعد الثورة كان شعراوي جمعة من رجال الأمن الحربي الذين شكلوا النواة الأولى لجهاز المخابرات العامة المصرية، فانضم إليها وعمل بها وخاصة في مجال الخدمة السرية وسرعان ما ترقى حتى حل نائبًا لمدير المخابرات العامة في ذلك الوقت صلاح نصر من عام 1957 وحتى عام 1961 ووقتها أيضًا كان يعمل برئاسة الأركان حتى تفرغ لمنصب نائب المخابرات، وهنا سيتضح لنا نقطة شديدة الأهمية في حياة شعراوي جمعة، وهي قدرته في الجمع بين المناصب ومتابعتها بدقة واهتمام.
اختاره عبد الناصر ليكون محافظًا للسويس وهي واحدة من المحافظات الهامة التي تختار لها القيادة السياسية رجال لهم قدرات خاصة، وظل شعراوي جمعة في منصبة محافظًا للسويس حتى تم استدعائه من قبل القيادة السياسية لمهمة خاصة لا يصلح لها إلا رجل قوي مثل شعراوي جمعة.
رجل الظل القوي
كانت الأحزاب في دوائر الحكم المصرية قد حسمت، حزب الرئيس وحزب المشير، وكان شعراوي جمعة أحد رجال حزب الرئيس، لذلك اختاره لأمانة التنظيم الطليعي الذي انبثق عن الاتحاد الاشتراكي العربي، والاتحاد الاشتراكي العربي كان هو بديل الأحزاب في مصر وصدر قرار بشأن تكوينه في عام 1962 ليحل محل الاتحاد القومي الذي جاء ليحل محل هيئة التحرير والتي جاءت هي الأخرى لتحل محل مجلس قيادة الثورة.
في البداية لم يكن الاتحاد الاشتراكي يضم في أمانته شعراوي جمعة، ولكن حينما قرر عبد الناصر أن يكون للدولة تنظيمًا سياسيًا سريًا، كلف عبد الناصر عام 1963 الثلاثي محمد حسنين هيكل وسامي شرف وعلي صبري بتأسيس تنظيم طليعة الاشتراكيين أو ما عرف لاحقًا بالتنظيم الطليعي، وفي منتصف عام 1964 جاء دور شعراوي جمعة ليتسلم الأمانة العامة للتنظيم وبدأ العمل.
كانت أولى ضربات التنظيم الطليعي هي الكشف عن مخطط الجماعة التكفيرية المحظورة وتنظيمها الخاص بقيادة سيد قطب باغتيال جمال عبد الناصر وإغراق الدلتا بتفجير القناطر الخيرية، وإشاعة الفوضى في البلاد، تلك القضية التي عرفت فيما بعد بتنظيم 1965، والتي أزادت من أسهم شعراوي جمعة كثيرًا لدى عبد الناصر.
يعتقد عدد من المؤرخين أن ما قام به شعراوي جمعة في التنظيم الطليعي، هو جعل عدد من الشباب المصري مخبرين لدى الدولة يتجسسون على أهلهم وزملائهم في الشوارع والجامعات وكتابة التقارير ضدهم، مما أفسح المجال أكثر وأكثر لما أطلق عليه بعد ذلك زوار الفجر.
ولكن يرى شعراوي جمعة أن هدف التنظيم الطليعي هو توحيد الصف والجبهة الداخلية المصرية والقضاء على أي خطر يهدد وحدة الصف داخليًا، ولكن يبدو أن التنظيم الطليعي كان أكثر فعالية من الأجهزة الأمنية المختلفة في مصر في تلك الفترة، وهو ما جعل جمال عبد الناصر يختار شعراوي جمعة ليصبح وزيرًا للداخلية عام 1966.
صدامات مع المشير
الغريب أنه وحتى عام 1966 لم يكن لشعراوي جمعة هذا الدور البارز في الحياة السياسية في مصر، ولكن كان له أثر ومواقف استطاع من خلالها أن يكتسب ثقة عبد الناصر، والأهم هو قدرته على الدخول في صدامات مباشرة مع المشير عبد الحكيم عامر نفسه، مثلما حدث عام 1965 حينما سربت تقارير داخل الاتحاد الاشتراكي الذي انضم إليه شعراوي جمعة وقتها حول فساد رجال المشير وتجارتهم في الأجهزة الكهربائية واستغلال خطوط النقل العسكرية بين مصر وجيشها في اليمن لتهريب تلك الأجهزة والتجارة فيها في السوق السوداء، ولكن الأزمة الكبرى لم تكن حدثت بعد.
في مارس 1967 رفع شعراوي جمعة تقريرًا لجمال عبد الناصر حول زواج المشير عامر ببرلنتي عبد الحميد وأنها حامل منه أيضًا، ووفقًا لمذكرات شعراوي جمعة هو لم يكن يريد أن يرفع التقرير للرئيس ولكن الحاجة الأمنية لتفتيش عدد من المنازل للوصول للمعلومات الكاملة عن الواقعة، ما يتطلب أذن النيابة العامة وفق تقرير اللواء حسن طلعت مدير المباحث الجنائية وقتها هو ما دعا شعراوي جمعة لإبلاغ الرئيس، فكان الصدام بين المشير وشعراوي جمعة وزير الداخلية.
انتهى الصدام مع المشير ليبدأ الصدام الأخير، بعد النكسة ومحاولة انقلاب عامر ورجاله على جمال عبد الناصر، والحقيقة أن شعراوي جمعة -وفقًا لمذكراته- يحكى تلك الفترة بدقة ودوره فيها، خاصة دوره في تصفية منزل المشير بالجيزة من الرجال والسلاح، واقتراحه لفكرة المحاكمة السياسية المغلقة للمشير، تلك التي ضمت من تبقى في الحكم من مجلس قيادة الثورة وهم عبد الناصر وحسين الشافعي ومحمد أنور السادات، والتي انتهت بتحديد إقامة المشير في منزله، قبل وفاته المثيرة للجدل بعد ذلك.
ما بعد 67
كانت الساحة السياسية قد خلت تمامًا من رجل المشير بعد النكسة، وأصبحت مفتوحة تمامًا لرجال الرئيس الذين سيطروا على كافة مفاصل الدولة بالفعل، بينما شعراوي جمعة جمع بين يديه أمانة التنظيم الطليعي وسكرتير الاتحاد الاشتراكي ووزارة الداخلية، ورغم تلك المهام شهدت فترته بعد النكسة العديد من الحوادث الهامة والتي تبين قدرة هذا الرجل على الحل والعقد.
ولكن برحيل عبد الناصر أصبحت تركته مشاع بتنافس عليها الجميع، ومع دعم شعراوي جمعة وعلى صبري وسامي شرف لترشيح السادات لم يدرك السياسي المحنك أنه يدعم من سيطيح به لاحقًا، فالسادات ليس عبد الناصر، وهو يعرف أن رجال عبد الناصر لن يدينوا له بالولاء خاصة في ظل سياسته المختلفة عن سياسة عبد الناصر فكانت الإطاحة بهم جميعًا فيما أسمي بعد ذلك بثورة التصحيح 15 مايو 1971.
وحكم على شعراوي جمعة بالسجن لكن سرعان ما عاد السادات وأفرج عنهم، ورغم هذا حمل شعراوي جمعة على رأسه ذنب القبضة البوليسية لنظام عبد الناصر، وذنب ما اسمي بعد ذلك بزوار الفجر، وظلت تلك التهم ملتصقه به، وبمراكز القوى الأخرى من رجال عبد الناصر، حتى الآن بينما يتناسى الجميع أن لكل شخص مزايا مثلما له عيوب.
♦♦♦
74 عامًا على ثورة يوليو، ومازال هناك الكثير من رجالها وأحداثها غير معروفة بالشكل الكافي، رجال لم نعرف عنهم غير وجه محدد تم انتقائه بعناية ربما ليظهر ملائكية بعض الوجوه الأخرى، أحداث ورجال تراكمت عليهم الأنظمة والحوادث ونساهم التاريخ أو خلدهم بشكل غير موضوعي، رغم انهم كانوا في يومًا من الأيام رجال صنعوا دولة.
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال